عبدالله كمال محمود *

فى ظل هذا التباين فى الآراء والتعدد فى الأفكار وفى ظل هذا المناخ الذى نحياه هذه الأيام نرى أنفسنا فى حاجة ماسة إلى التحلى بأدب الاختلاف، الذى ضرب لنا فيه الحبيب المصطفى – صلوات الله وسلامه عليه – وكذلك صحبه الكرام المثل الأعلى فى أوقات الاختلاف، بل وقبل كل شيء فى كيفية استثماره الاستثمار الأمثل فيما هو مفيد ونافع للبلاد والعباد على حد سواء.

فإذا علمنا أن الاختلاف يقع وصفاً للآراء والأفكار فى الوقت الذى يتعلق الخلاف فيه بالأشخاص؛ فقد كان المصطفى - صلوات الله وسلامه عليه – يستثمر هذا الاختلاف وذاك التنوع فى الرؤى ووجهات النظر المتعددة بالاستماع لآراء صحابته الكرام - رضوان الله عليهم أجمعين - وهذا ما ثبت عنه – صلوات الله وسلامه عليه فى العديد من المواضع والحوادث المختلفة، وما ذاك إلا ثمرة للعمل بقوله تعالى فى سورة آل عمران: “وشاورهم فى الأمر” وكذلك قوله سبحانه فى سورة الشورى: “وأمرهم شورى بينهم”، حيث كان يستمع إلى آراء أصحابه ليستثمرها فى انتقاء أطيبها وأكثرها نفعاً وفائدة. ويكفينا على ذلك مثلاً ما كان من استماعه للصحابى الجليل الحباب بن المنذر بن الجموح، بل والعمل برأيه أيضاً؛ وذلك حيث أشار إلى النبى - صلوات الله وسلامه عليه - بأن يغير المنزل وهو الموضع الذى نزله - صلى الله عليه وسلم - فى بدر بأن يتقدم إلى الأمام بحيث يسيطرون على مواضع الماء الذى يعد نقطة ارتكاز مهمة بالنسبة للمسلمين ومن مراكز قوتهم؛ ففعلوا ذلك وتقدموا؛ وقد كان فيه الخير العظيم.

وكذلك كان صحابته الكرام عند اختلافهم حيث نجدهم فى منزلة أعلى من السمو الخلقى والتوافق النفسى والحرص الشديد على عدم الفرقة وعملهم على وحدة الأمة. فهذا الصحابى الجليل عبد الله بن مسعود - رضوان الله عليه – يعلم أن سيدنا عثمان بن عفان - رضوان الله عليه - يصلى بمنى أربع ركعات؛ فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد صليت خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم وخلف أبى بكر وعمر ركعتين. وعندما حضرت الصلاة صلى سيدنا ابن مسعود رضوان الله عليه خلف سيدنا عثمان أربع ركعات؛ فقيل له: كيف تصلى خلفه أربعاً؟ فقال: الخلاف شر. ولم يرض أن يشق عصى الجماعة أو يكون سبباً فى بث الفرقة بين أبناء الأمة. وغير ذلك الكثير والكثير من الأمثلة المضيئة فى تاريخ هذه الأمة، والتى يبين من خلالها كيف يكون أدب الاختلاف، المتمثل فى سمات مضيئة راقية، ما أحوجنا إليها هذه الأيام؟ وخصوصاً السمات الآتية:

استثمار الاختلاف فى وجهات النظر لإثراء الفكر وانتقاء أفضل ما يمكن الوصول إليه.

حسن الظن، حيث كان الواحد منهم يحسن الظن بأخيه مع مخالفته له فى الرأي؛ حتى رأينا منهم من كان يتمنى أن يكون الحق مع أخيه الذى اختلف معه، كما ورد ذلك عن الإمام الشافعى - رحمه الله -.

عدم اتباع الهوى، فلم يكن الواحد منهم إلا متجرداً للحق والصواب واضعين نصب أعينهم قول الله سبحانه فى سورة ص “ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب”.

التزام الصواب والرجوع إليه، فطالما تبين لهم الحق التزموه وعملوا بالأولى وما فيه خير لهم؛ ويتضح ذلك من رجوع سيدنا أبى ذر الغفارى - رضوان الله عليه - على إثر ما حدث بينه وبين سيدنا بلال بن رباح - رضوان الله عليه - ؛ عندما رجع إلى الصواب ووضع وجهه على الأرض وأقسم ألا يرفعه إلا بعد أن يطأه بلال بقدمه - رضوان الله عليهم أجمعين -.

الحرص على وحدة الصف، حيث كانوا فى أوقات الاختلاف حريصين كل الحرص على لم الشمل وتماسك جميع أفراد الأمة؛ إذ فيه الخير كله. وعلمهم وعملهم أيضاً بما فى قوله سبحانه: “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم”.

وهكذا يتضح لنا ما نحن فى أمس الحاجة إليه من أدب الاختلاف؛ حتى نرقى بأنفسنا للأفضل ولما فيه الخير والرشاد، وحتى يتجرد أفراد الأمة من سوء الظن واتباع الهوى، وسلوك طريق الحق والصواب؛ حتى نصل إلى التماسك والتآلف والتآزر بين أبناء الأمة الواحدة وعدم تفرقهم، ولم شملهم؛ عملاً بقوله – تعالى -: “واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آيته لعلكم تهتدون”.

نفعنا الله وإياكم وأصلح حال البلاد والعباد. اللهم آمين

* المدرس المساعد بجامعة الأزهر وعضو مؤسسة التبادل والتعاون الثقافى الدولية.