احتـرام المقابر

الحمد لله الذي أنقذنا مِنَ براثن الذل والعبودية،إلى فضاءآت العز والكرامة والخير والبركة والحرية. فله الحمد حتى يرضى، وله الحمد إذا رضي، وله الحمد بعد الرضى، وله الحمد على كل حال. وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

نحن الكورد انحصرت أفراحنا وأتراحنا في شهر آذار، لكنَّ حلاوة أفراحنا أنْسَتْنا مرارة أتراحنا. ففي بداية السنة الكوردية (21 آذار)، وفي غمرة أفراح نوروز، وخروج أهالينا شيباً وشباباً،سواء للاحتفال بهذه المناسبة والتي يجب أنْ تكون ضمن الحدود الشرعية، حتى لا نُغْضِبَ الباري عز وجل، وحتى يديم علينا مِن نِعَمِهِ وخيراته وبركاته التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى، ونحن نطلب المزيد فيجب أنْ نلتزم بقوله تعالى [وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ] (سورة ابراهيم، الآية: 7).

أو يكون خروجهم للتنـزه واستنشاق عبق الربيع الذي انطلق مع بداية السنة الجديدة،وانبعاث الحياة في الكائنات بقدرة الله تعالى: [وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ] (سورة الحج جزء من الآية:5) تَسرُّ الناظرين.

لكن مما يُؤسَفُ له أنَّ غابات كوردستان هي الأخرى كَكُلِّ ذَرةٍ تنتسب إلى كوردستان،لم تَسلم مِن الأذى وعلى وجه الخصوص إقليم كوردستان العراق، حيث كانت الحرائق مِن لدن المتعاقبين على كرسي الحكم في العراق، والتي كانت تلتهم الأخضر واليابس وتترك الآرض جرداء سوداء،وتدعو بلسانها على الفاعلين وترفع شكواها إلى بارئها، وتدعو على الذين يتبعون سياسة الأرض المحروقة، والذين أذاقوا كوردستان وشعبها وكل ما ينتمي إلى كوردستان الأَمَرَّين، لمجرَّدِ أنهم كوردستانيون.

إضافةً إلى ذلك بعد الإنتفاضة الآذارية المباركة، وفرض الحصار الاقتصادي الجائر على كوردستان وشعبها وشحة المحروقات كبقية المواد، اضطر الناس إلى أن يعمدوا إلى ما تبقى من الأشجار والشجيرات، للاستعانة بها لأغراض الطبخ والتدفئة، فتحولت البقية الباقية من الأشجار والشجيرات إلى وقود وتُرِكَتِ الأرض جرداء قاحلة، باستثناء اشجار المقابر التي لم يقربها أحد، لأنَّ شعبنا الكوردي يكن لهذه المقابر التقدير والاحترام وفي بعض الحالات يصل إلى درجة التقديس، وكل ذلك نابع من تمسكه بدينه واقتدائه بسنة الحبيب المصطفى محمد()، لأنَّ غالبية شعب كوردستان مسلمون، والذين يعيشون معهم من الديانات الأخرى هناك احترام متبادل بينهم في ضوء الحرية الدينية [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ] (البقرة، جز من الآية: 256)، وحرية الاعتقاد والتعبد،كلٌّ يعمل على شاكلته. والمسلمون اقتدوا بسنة نبيهم في طلب المغفرة لأمواتهم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((مَرَّ رسول الله() بقبرين فقال: إنَّهما لَيُعَذَبان وما يُعَذَّبان في كبير، أمَّا أحَدُهما فكان لا يستَتِرُ مِن البول، وأمَّ الآخرُ فكان يمشي بالنميمة، ثم أخذ جَرِيدَة رطبةً فشقها نصفين فغرز في كُلِّ قَبْرِ واحدةً. قالوا يارسول الله: لِمَ فعلت هذا؟ قال: لَعَلَّهُ يُخَفَّفَ عنهما)) (صحيح البخاري: ج1/88 باب من الكبائر أن لايستتر من بوله، حديث رقم/215)، فتأسياً بسنته() يزرع الناس الأشجار والزهور والورود في مقابرهم، رغبة في طلب الرحمة والمغفرة لموتاهم، وما يكنه المسلمون من تقدير واحترام لمقابرهم وموتاهم،حافظوا على تلك الأشجار حتى أنها غدت غَنّاءَ كثيفة مهيبة وتُعْرَف من بعيد بأنها مقابر، مِن تلك الأشجار، لأن ما حواليها من الأراضي قد غدت شبه جرداء إن لم تكن عارية تماماً، إلاّ اللهم بعد صدور قرار برلمان كوردستان بمنع قطع الأشجار وصيد الحيوانات البرية، واستحداث شرطة الغابات والمحافظة عليها ومعاقبة المخالفين، بدأت تظهر شجيرات على سفوح الجبال وتأخذ شكل الغابات، ومنظرها جميل لأنها تكاد تكون في عمر واحد وطول ونسق واحد بسبب الاهتمام بها من قبل الدوائر المختصة، ومعاقبة من يعبث بها وتقديمه للمحاكم المختصة لينال عقابه. والذي أوَدُّ أن أقوله هنا: نجد الناس قد أحاطوا أملاكهم الخاصة وهذا حقهم الطبيعي، وخاصةً في الفترة الأخيرة بأسيجةٍ سلكية متينة معتمدة على أعمدة إما كونكريتية أو حديدية، يصعب اختراقها، وتحيط به كإحاطة السوار بالمعصم؛ ولكن المقابر لا نجد لها أسيجةً إلاّ ما قل وندر.

 ونجد الذين خرجوا للتنـزه أو الاحتفال بمناسبة ما، يلجاؤون للبحث عن ظل يستظلون به من حرارة الشمس، سواء في آذار أونيسان وما بعدهما أشد حرارة؛ فلا يجدون أشجاراً تفي بالغرض سوى ما موجود في المقابر، فيلجاؤون إلى ظل أشجار المقابر، وينتهكون حرمتها وحرمة الأموات المدفونين فيها؛ بالدبكات الكردية سواء الخاصة بالرجال أو النساء، وأكثرها مختلطة، على ظهر قبور تلك المقبرة، والأصوات المرتفعة والمنبعثة من مكبرات الصوت، ومن أجهزة التسجيل الأغاني التي تشمئز من سماعها النفس، أو أصوات الآلات المنهية عنها شرعاً، وتعاطي المسكرات فيها ولعب الميسر على سبيل التسلية على حسب تعبير هؤلاء الرواد. فقد أصبحت المقابر مسارح أماكن للهو واللعب. وهناك من جعلها مسرحاً لأغنامه من حرارة الصيف، ومستحلباً لها.

روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله(): ((لأنْ يَجْلِسَ أحَدُكُم على جَمْرَةٍ فَتَحْرِقَ ثيابَهُ فتخلص إلى جلده خير له مِن أنْ يَجلِسَ على قبر)) (صيح مسلم/ ج2/667 باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه، حديث رقم/971). وروى ابن حبّان في صحيحيه،عن عائشة أم المؤمنين، عن النبي() قال: ((كَسْرُ عظم الميت كَكَسْرِهِ حياً)) (صحيح ابن حبَان: ج7/437 ذكر الأخبار عما يستحب للمرء من تحفظ أذى الموتى ولاسيما في أجسادهم، حديث رقم/3167). إضافة إلى ماسبق ما يفعله الأطفال مِن العبث وحتى قضاء الحاجة (من التغوط والتبول) على أو بين تلك الأضرحة.

سؤالي هنا إذا كان الضريح لشخص عزيز أياً كان؛ لذلك الراقص على الضريح، هل يفعل ذلك؟ أويسمح به لغيره؟

فأين نحن من احترام المقابر؟وأين نحن من الرسول()، ما يروية الحاكم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله(): ((نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تُذكركم الموت)) (المستدرك: ج1/531 حديث رقم/1388). وعنه أيضاً قال: قال رسول الله(): ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألآ فزوروها فإنه يرق القلب ويدمع العين وتذكر الآخرة ولا تقولوا هجراً)) (المستدرك: ج1/532 كتاب الجنائز، حديث رقم/1393 و1394).   

أهكذا يكون الاتعاظ، وتذكر الموت والبِلى، وترقيق القلب وتدميع العين؟ ما يقوم به البعض تجاه المقابر وجعلها محطة استراحة مؤقتةٍ للترفيه، وما يُسمى بتغيير الجو، أو التنـزه، أو السفرة العائلية، أو غيرها من المسميات، وتحت غطاء الحجج والأعذار الواهية، اتعاظهم وتذكرهم الموت، يحل محله اللهو واللعب والمرح؛ على وبين اضرحة تلك المقابر التي جعلوها مسرحاً لسفرتهم، كأنهم خالدون، ولايألون على شئ، ولا يعتبرون، ولا يتعظون مما يرون رأي العين. وإنَّ غداً يكون مَصِيرُهم كمصيرِهم تحت الجنادل والتراب. فماذا يكون عند السؤال منهم الجواب؟

هنا يأتي دور علماء الدين من الخطباء وأئمة المساجد في توعية وتنبيه الناس، إلى عدم العودة إلى مثل ذلك. واجتناب تدنيس المقابر بمثل هذه الأفعال المشينة التي يندى لها الجبين، والتي أوقعتنا في مواقف محرجة مع أُناس لا يكادون يفقهون قولاً. ونرفع صوتنا إلى وزراة الأوقاف والشؤون الدينية، ومن خلالها إلى مديريات الأوقاف للقيام بحملة تسييج المقابر حرصاً وحفاظاً على حرمة أمواتنا وعدم الاستخفاف بها، وما يُقترف فيها مِن موبقات باسم الحرية أو السفرة أو الترفيه أو التنـزه؛ وحفاظاً على مشاعر الأحياء. هل ضاقت الأرض بالناس بما رحبت،حتى لايجدون ملاذاً وملجاءً سوى المقابر؟!

اكرر مناشدتي للجهات المسؤولة لإنقاذ مقابرنا ومشاعرنا من عبث العابثين ولهو اللاهين، والذين لايشعرون بالمسؤولية، وعدم احترام مشاعر

هدانا الله وإيّاهم أجمعين. والله من وراء القصد.

* جــامعـة زاخــو- فاكولتي العلوم الإنسانية- قسم الدراسات الإسلامية