الناس عند المصيبة على أربع مراتب

اعلموا أنكم تعيشون بدار ابتلاء وامتحان، وتحيون حياة فتن واختبار، لا رادّ لما قضاه الله وقدّره، ولا مانع لما أراده ودبّره، فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.

لقد جبل الله الدنيا على الكَدَر وعدم الصفو، وقدّر أن تكون دار متغيّرات ومتناقضات، إن أضحكت يومًا أبكت أيامًا، وإن سرّت حينًا أحزنت أحيانًا، صحيحها إلى سَقَم، وكبيرها إلى هَرَم، وحيّها إلى فناء، ووجودها إلى عدم، شرابها سراب، وعمارتها خراب، هذا مستبشر بمولود فرح بقدومه، وذاك مغموم لفقد حبيب حزين لفراقه.

قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: "ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم تَعْتَوِرْ فيها الأمراضُ والأكدار، ولم يضق العيش فيها على الأنبياء والأخيار، فآدم يعاني المحن إلى أن خرج من الدنيا، ونوح بكى ثلاثمائة عام، وإبراهيم يكابد النار وذَبْحَ الولد، ويعقوب بكى حتى ذهب بصره، وموسى يقاسي فرعون ويلقى من قومه المحن، وعيسى ابن مريم لا مأوى له إلا البراري في العيش الضَّنْك، ومحمد يصابر الفقر وقَتْلَ عمه حمزة وهو أحب أقربائه إليه ونفور قومه عنه، وغير هؤلاء من الأنبياء والأولياء مما يطول ذكره، ولو خُلِقت الدنيا للذة لم يكن حظّ للمؤمن منها".

إن الله يبتلي عباده جميعًا، مؤمنهم وكافرهم، وبرّهم وفاجرهم، فكل يأتيه من المصائب والبلايا نصيب، فهذا يُبتلَى بمرض مُزْمِن، وذاك يُصاب بجائحة في ماله أو ولده، وهنا مُبتلَى بموت قريب، وهناك مصاب بفقد حبيب، ولكنّ الناس يختلفون في استقبال هذه المصائب والرزايا، فمنهم من يستقبلها بالتسخط والجزع، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهذا بشرّ المنازل وأدناها، ومنهم من يصبر ويصابر، ومنهم من يرضى ويستسلم، ومنهم من يشكر الله ويحمده.

فالناس حال المصيبة على مراتب أربع:

المرتبة الأولى: التسخط، وهو على أنواع: النوع الأول: أن يكون بالقلب، كأن يتسخّط على ربه يغتاظ مما قدره الله عليه، فهذا حرام وقد يؤدي إلى الكفر، قال تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ.

 النوع الثاني: أن يكون التسخّط باللسان، كالدعاء بالويل والثبور وما أشبه ذلك، وهذا حرام.

النوع الثالث: أن يكون التسخّط بالجوارح، كلطم الخدود وشق الجيوب ونتف الشعور وما أشبه ذلك، وكل هذا حرام مناف للصبر الواجب.

المرتبة الثانية: الصبر، وهو كما قال الشاعر:

والصبرُ مثلُ اسمه مُرٌّ مَذَاقُهُ

لكنْ عواقبه أحلى من العَسَلِ

فيرى أن هذا الشيء ثقيل عليه، لكنه يحتمله، وهو يكره وقوعه، ولكن الصبر يحميه من السخط، فليس وقوعه وعدمه سواء عنده، وهذا واجب؛ لأن الله تعالى أمر بالصبر فقال: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ .

المرتبة الثالثة: الرضا، بأن يرضى الإنسان بالمصيبة، بحيث يكون وجودها وعدمها سواء، فلا يشق عليه وجودها ولا يتحمل لها حملاً ثقيلاً، وهذه مستحبة وليست بواجبة على القول الراجح، والفرق بينها وبين المرتبة التي قبلها ظاهر؛ لأن المصيبة وعدمها سواء في الرضا عند هذا، أما التي قبلها فالمصيبة صعبة عليه، لكن صبر عليها.

المرتبة الرابعة: الشكر، وهو أعلى المراتب، وذلك بأن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة، حيث عرف أن هذه المصيبة سبب لتكفير سيئاته، وربما لزيادة حسناته، قال: ((ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها عنه، حتى الشوكة يُشاكُها))" انتهى كلامه رحمه الله.

فلنعلم أنَّ هنالك أمران مما يسلّي المؤمن في مصيبته ويعينه عند محنته، ينبغي أن يضعهما كل مبتلى نصب عينيه وأمام ناظريه:

الأمر الأول: أن يعرف أن أهله وماله ملك لله عز وجل على الحقيقة، وأنه ليس إلا أمينًا على ما في يده، فإذا أخذه الله منه فكأنه رد الأمانة إلى صاحبها، فليس العبد هو الذي أوجد الشيء، وإنما المالك الحقيقي لذلك هو الله عز وجل، وهو المتصرف فيما يريد كيف يشاء.

الأمر الثاني: ما دام مصير العبد إلى الله فيجب عليه أن يعلم أن هذه الدنيا قصيرة مهما طالت، وأنه سيتركها عاجلاً أو آجلاً، وأنه سيلقى ربه كما خُلِق أول مرة بلا أهل ولا مال، وإنما سيلقاه بحسناته وسيئاته، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يفرح بموجود ويحزن لمفقود؟!

فيا من بليت بمصيبة أو رَزِيّة من مرض مزعج أو ألم مُضْن أو فقد قريب أو موت حبيب، عليك بالصبر؛ فإنه مرضاة للرب، مؤنس للقلب، مُذْهِب للهَمّ، طارد للغَمّ، مُعْظِم للأجر، مُؤْذِن بالعِوَض.

قال: ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبْتَلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رِقّة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة))، ويقول: ((إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط))، وعن أبي موسى أن رسول الله قال: ((إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسموه: بيت الحمد))، وفي الحديث القدسي يقول الله تبارك وتعالى: ((ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)).

وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: ((ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها إلا آجره الله تعالى في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها))، قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أيّ المسلمين خير من أبي سلمة؟! أول بيت هاجر إلى رسول الله، ثم إني قلتها، فأخلف الله لي خيرًا منه: رسول الله. وقال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: "ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه فعاضه مكانها الصبر إلا كان ما عوضه خيرًا مما انتزعه".

حدّثَ أحدهم فقال: كان لإبراهيم الحربي ابن كان له إحدى عشرة سنة، حفظ القرآن، ولقّنه من الفقه جانبًا كبيرًا، قال: فمات فجئت أعزيه، فقال: كنت أشتهي موت ابني هذا، قال: فقلت له: يا أبا إسحاق، أنت عالم الدنيا تقول مثل هذا في صبي قد أنجب ولقّنته الحديث والفقه؟! قال: نعم، رأيت في منامي كأنّ القيامة قد قامت، وكأن صبيانًا بأيديهم قِلال فيها ماء يستقبلون الناس فيسقونهم، وكان اليوم حارًا شديدًا حره، قال: فقلت لأحدهم: اسقني من هذا الماء، قال: فنظر وقال: ليس أنت أبي، قلت: فأي شيء أنتم؟ قال: فقال لي: نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا وخلّفنا آباءنا، فنستقبلهم فنسقيهم الماء، قال: فلهذا تمنيت موته.

ألا فليتق الله كل مسلم يصاب بمصيبة أو رَزِيّة، وليحذر حال مصيبته كل الحذر أن يتكلم بشيء يسخط ربه ويحبط أجره مما يشبه التظلم، فإن الله تعالى عادل لا يظلم ولا يجور، عالم لا يضل ولا يجهل ولا ينسى، حكيم في أفعاله وأقداره، فعّال لما يريد، له الأمر من قبل ومن بعد.

 قد تكون المصيبة لذنب ارتكبه أو لسوء فعله أو لظلم وقع فيه، نسيه أو تناساه، ولكن الله عز وجل مطّلع عليه، ويعلم سره ونجواه، قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ، وقال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ، وقال سبحانه: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ، وفي سنن الترمذي عن أبي موسى الأشعري عن النبي أنه قال: ((لا يصيب عبدًا نَكْبَةٌ فما فوقها أو دونها إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر))، ثم قرأ: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ، وقد تكون المصيبة من أجل تكثير الحسنات ورفع الدرجات، وقد تكون من أجل أن يشعر المسلم بضعفه وعجزه وافتقاره إلى ربه جل وعلا وأنه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا.

وليس الخطب في هذا، ولكنّ الخطب فيما وقع فيه أكثر الناس اليوم، وهو الجزع والهلع من المصيبة في الدنيا إذا وقعت، والتسخط والتأوّه منها، والإعراض عن الآداب الشرعية التي شرعت للمسلم عندما تحل به مصيبة في الدنيا، والوقوع في أعمال تنافي الإيمان وتضعفه في القلب، وتوجب الاعتراض على القضاء والقدر، ثم الغفلة بعد ذلك عن مصيبة الدين، فتجد المسلم يترك الصلاة ولا يعدّ ذلك مصيبة، يأكل الربا والرشوة ولا يعد هذا من البلاء، يقع في الفواحش والمنكرات ولا يعد هذا من الرزايا، يقع في عقوق الوالدين وقطيعة الأرحام ولا يكترث لذلك، يقع في ظلم الناس وأكل أموالهم وحقوقهم ولا يخاف لذلك ولا يهتزّ له قلب أو عضو.