ما الحكمة من فرضية الصوم ؟


بكالوريوس في الشريعة والعلوم الاسلامية

                                                                                                

من المعلوم أن من أسماء الله تعالى ( الحكيم ) والحكيم من اتصف بالحكمة ، والحكمة اتقان الامور ووضعها في موضعها ، ومقتضى هذا الاسم من اسمائه تعالى ان كلَ ماخلقه الله تعالى أوشرعه فهو لحكمة بالغة ، علمها من علمها وجهلها من جهلها ، فان الله تعالى لم يفرض علينا الصوم ويمنعنا عن الطعام والشراب والتي احلهما لنا ليعذبنا أو يعنتنا ، فحاشى لله ذالك وليس هذا هو الهدف الاهم من فرضية الصوم ، ولكن الهدف الرئيسى من الصوم التى شرعه الله تعالى وفرضه على عباده حكم عظيمة و فوائد كثيرة ، نشيره من هنا بالنقاط التالية .    

1-  اكتساب التقوى / وهي المقصد الاهم من فرضية الصوم ، كما يشير اليه سبحانه وتعالى [ يا ايَها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ] البقرة 183

وهذه الغاية المرادة بالصوم هي الغاية من العبادات جميعاً [ يا ايّها الناسُ اعْبُدوا ربّكمُ الذي خلقكمْ والذين من قبلكم لعلّكمْ تتّقون] البقرة 20

والتقوى هي الخشية كما قال تعالى [ اذْ قالَ لهمْ أخوهمْ نوحٌ الا تتّقون ]     الشعراء 106 /  والمعنى الا تخشون الله  .

وحقيقة التقوى هو ان يعرف العبد ربه باسمائه وصفاته ، بحيث يعرف عظمته وقهره وجبروته وقدرته فيخاف منه ويفزع ، فيحذر ان يقع في معصيته

فالتقوى اذاً حذر وتوقي لأسباب العذاب ، وعند خواص المؤمنين حذر وتوقي لأسباب البعد عن الله ، كالذي يسير في طريق فيه شوك يحذر ان يقع فيه ، لقد سأل عمر بن الخطاب أُبي بن كعب ماهي التقوى ؟ اجاب ابي يا امير المؤمنين أما سلكت طريقا ذات شوك ؟ قال: بلى، قال : فماذا صنعت ؟ قال عمر : شمرت واجتهدت ، قال : فذالك التقوى ، فالمتقي يحذر من شوك الطريق وهى الذنوب والمعاصي فدائما هو في حذر ان خطى خطوة قال له: ما اردت بهذه الخطوة ؟ 

واذا راى امراة خاف من ربه  وصرف بصره ، فهودائماً يستشعر رقابة الله عليه ويخافه ويتقيه في فعله وتركه ، وقيامه وقعوده حتى في اكله وشربه . وهكذاتبرزالغاية الكبيرة من الصوم (انّها التقوى) فالصائم مأمور بتقوى الله عزّ وجلّ وهي أمثال أمر الله واجتناب نهيه وهذا هو المقصود الاعظم بالصيام، وليس المقصود تعذيب الصائم بترك الاكل والشرب والنكاح ، فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة طاعة لله وايثاراً لرضاه، والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من افساد الصوم بالمعصية، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلع اليها أرواحهم، وهذا الصوم أداة من أدواتها طريق موصل اليها.

فلاشيء افضل من ان يكسب العبد من التقوى من ان يصوم لله تعالى ، لقد صدق جل وعلا حين يقول ( لعلّكم تتقون ) فأنت العبد تصيبك المشقة بسبب الصوم من جوع او عطش أو حرارة  أو غير ذالك ، ولا تستطيع أن تأكل شي ء أو تشرب ولو كنت في غيبة أمام الناس لانك تشعر بمراقبة الله ، فهل أنت تستعد أن تصيب نفسك من الاذى لغير الله تعالى بهذه الكيفية ؟  فاذا لم تفعل ذالك الا لله فهو خير دليل على صدق ايمانك بوحدانية الله وانك تخشى من الله حقيقة الخشى . 

2- تحقيق الاخلاص ، والبعد عن الرياء  . فالصائم انّما يمتنع عن هذه الشهوات المباحة والمحببة للنفوس، انّما يمتنع عنها لله تعالى وحده فقط، في الوقت الذي لايراه فيه أحد، اخلاصاً لله، وهذا هو المطلوب في جميع العبادات الظاهرة والباطنة ، كما قال تعالى : وما أمروا الاّ ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ) البيّنة / 5

أي : كون حالهم مخلصين فيه للّه ، فلم يؤمروا بالعبادة فقط ، بل بالاخلاص فيها 

روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبيّ (صلّ الله عليه وسلم) 

قال الله تعالى في الحديث القدسي : يترك طعامه وشرابه من أجلي ،الصيام لي وانا أجزي به ] اذا فهذه العبادة الجليلة التي قال الله عنها : يترك طعامه وشرابه من أجلي ، تنمّي في الانسان العمل لله وحده ، وتربي فيه مبدأ عدم الرياء والاخلاص لله في جميع الاعمال الظاهرة والباطنة ، لذالك ورد في الاثر ليس في الصوم رياء

قال الحافظ ابن حجر: معنى النفي أنه لايدخله الرياء بفعله وان كان يدخله الرياء بقوله كمن يخبر أنه صائم / العمر ، ص 31/ 32

فهذا هو معنى من معاني الصوم لي ، انه سرّ بين العبد وربه ، ولايدخله الرياء

والمعنى الثاني : أنه لاتدخله المقاصة يوم القيامة ، كما ورد في البخاري : كلّ عمل كفّارة الاّ الصوم الصوم لي أنا أجزي به / ومن أحسن ما قيل في معنى ذالك ماقاله سفيان ابن عينة قال: هذا من أجود الاحاديث وأحكمها ، اذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده ، ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله ، حتّى لايبقى الاّالصوم ، فيتحمل الله مابقي عليه من المظالم ، ويدخله بالصوم الجنّة ، أخرجه البيهقي في الشعب/   

قال ابن رجب : وعلى هذا فيكون المعنى أنّ الصيام لله ، فلا سبيل لأحد الى أخذ أجره من الصيام ، بل أجره مدخر لصاحبه عندالله تعالى ، ( ابن رجب لطائف المعارف ص 286 )

فنتعلم اذاً بانّ الاخلاص من العمل أمر ضروري لكل أعمالنا ظاهرها وباطنها ، ولا يوجد شي ء أجمل من الصوم من ناحية عدم وجود الرياء وتحقيق الاخلاص فيها .

 

                                          

3- التربية على الصبر وقوة الارادة  ما أحوجنا الى الصبر والمصابرة والتحمل وقوة الارادة، وبخاصة في هذا الزمان الذي قلّ فيه الصبر ، وضعفت فيه الارادة، وقلّ فيه التحمل، عصر السرعة والانترنت، نريد كلّ شيء بغطة زرّ، لنكن صرحاء مع أنفسنا، فلو تعطلت علينا المكيفات في بيوتنا أوسياراتنا أومساجد نا فكيف سيكون حالنا ؟  

وكيف يكون حالنا لو هجم علينا عدونا ؟ هل نجد فينا قدرة الصبر للصمود أمامه

لقد قلّ الصبر، وعندما يأتي رمضان نتعلم تلك الخصلة الحميدة، فنصبر على الجوع والعطش ، ونصبرعلى الصلاة وقيام الليل ، ونبذل من أموالنا للفقراء ، ونتحمل أذى الناس وجهل الجاهلين ، ولا شكّ أنّ في ذالك تعويد لنا على الصبر والتحمل ، فاننا نحتاج الى الصبر في كل أمورنا ومكاسبنا والصوم أفضل مدرسة لتعليم الصبر والتحمل على الأذى، ومن أراد التدرب على الصبر فعليه بالصيام

وهذا هو أحد الحكم من من فرضية الصوم .

 

4 -  التذكير بنعمة الله / عندما يحسّ الصائم ألم الجوع ، وحرارة العطش في نهار رمضان ، فأنّه يتذكر البؤساء والفقراء الذين لايجدون ما يكفيهم من ذالك طوال السنة ، فيتساوى عندها الغنيّ والفقير في الجوع ، فتذهب غفلة الشبعان عن الجائع ، ويتذكر الموسر حال المعسر ، ويتقي الله فيما سيسأله الله عنهم ، فيأتى رمضان ليذكرنا أوّلاً بهذه النعمة التي نحن فيها فنشكرها ، ويذكرنا ثانيا بمن حولنا من الفقراء الذين ذقنا ألم جوعهم وحرارة عطشهم ، فنمد لهم يد الرحمة ، ونمسح عنهم ألم البؤس ، وندخل السرور على أطفالهم كما نحبه لاطفالنا  

عندها تنشأ الرحمة بين الناس ، وتزول الكراهية والحسد ،

ومن النعم الصحة ، جاء  رجل الى يونس بن عبيد وهويشكو ضيق حاله ، فقال له يونس : أيسرك ببصرك هذا الذي تبصر به مأة الف درهم ؟ قال الرجل : لا

يعني ماذا أفعل بمأة الف وأنا أعمى ، قال : فبيدك مأة الف قال: لا

قال: فبرجلك ؟ قال : لا، فذكّره نعم الله عزّ وجل، ثمّ قال يونس: أرى عندك مئين الالوف، وأنت تشكوالحاجة / صلاح الامة ج 5 ص 488

ومن النعم : ما يصرفه الله عنك من الذنوب ، وأنت ترى غيرك يهلك فيه .

ومن النعم شكر النعم ، أن يفقك الله لشكر نعمته عليك، فهذه أيضا نعمة .

وللصوم فوائد وحكم أخرى منها انّ الصوم يقمع الشهوة ، ويربي العبدعلى التطلع الى الدار الآخرة ، بالاضافة الى الناحية الصحية ، حيث يكتشف الخبراء في مجال الطب العديد من الفوائد المهمة للجسم بسبب الصوم، وذالك نتيجة تقليل الطعام ، وراحة الجهاز الهضمي لفترة معينة ، وانّ الصوم يساعد الجسم للتخلص من الفضلات الضّارة المترسبة في الجسم وغير ذالك من الفوائد الصحية ، والرسول الاكرم (صلّ الله عليه وسلم ) يرشدنا الى هذه الفائدة حين يقول : صوموا تصحوا ] نكتفي هنا بما قدمنا ه من بعض الحكم البارزة من فرضية الصوم علينا ، نأمل أن يستفيد منه الجميع ان شاء الله .