مفهوم الجهاد فى الإسلام 1

 

القسم الأول

مقدمة

الجهادُ له فضلٌ عظيمٌ في الإسلامِ، ويشمَلُ الحياةَ كلَّها، وقد اختلفتِ الآراءُ حولَ مفهومِ الجهادِ في الإسلامِ، وكثرتْ الشائعاتُ حولَه.

وهذا البحثُ يجِيبُ عَنِ المقصودِ بالجهادِ، وبيانِ الفَرْقِ بين القتلِ والقتالِ، وحكمِ كلٍّ منهما، وهل الجهادُ فرضُ عينٍ أم كفايةٍ؟ ومتى يكون فرضًا على المسلمين؟ وهل الجهادُ مشروعٌ للدفاعِ أم للمبادأَةِ؟ وما هو السببُ الذي يجْعَلُ قتالَ المسلمينَ لغيرِهم أمرًا مشروعًا؟ هل هي حالةُ العداءِ، أو هي حالةُ الكفرِ بمعنى رفضِ الدِّينِ الإسلاميِّ؟ ويبين كذلك الفَرْقَ بين الجهادِ والحربِ، وبعضِ الحقائقِ عَنِ الجهادِ.

تعريف الجهاد

الجهاد لغة:

هو: استفراغُ ما في الوُسْعِ والطاقةِ من قولٍ أو فعلٍ.

الجهاد شرعًا: 

أشملُ تعريفٍ للجهادِ ما ذكره شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ  حيث قال: «والجهادُ هو بذل الوُسْعِ – وهو القدرةُ – في حصولِ محبوبِ الحقِّ». وقال في موضعٍ آخَرَ: «وذلك أن الجهادَ حقيقتُهُ الاجتهادُ في حصولِ ما يحبُّه اللهُ مِنَ الإيمانِ والعملِ الصالحِ، ومِن دفعِ ما يُبْغِضُه اللهُ مِنَ الكفرِ والفسوقِ والعصيانِ». 

فهذا التعريفُ يشمَلُ كلَّ أنواعِ الجهادِ التي يقومُ بها المسلمُ؛ يشمَلَ اجتهادَه في طاعةِ اللهِ بامتثالِ أمْرِه واجتنابِ نهيِه في نفسِه، واجتهادَه في دعوةِ غيرِه - مسلمًا كان أو كافرًا - إلى طاعةِ اللهِ، واجتهادَه في قتالِ الكفارِ لإعلاءِ كلمةِ اللهِ، وغيرِ ذلكَ. 

والقيدُ «في سبيل اللهِ» شرطٌ في كونِ الجهادِ شرعيًّا، وهو يُخرج كلَّ سعيٍ واجتهادٍ لا يُقْصَدُ به وجه الله.

فضل الجهاد في سبيل الله تعالى

جاء في فضلُ الجهادِ نصوصٌ كثيرةٌ وأنواعٌ من الثوابِ الجزيلِ، ومن ذلك على سبيلِ المثالِ لا الحصرِ ما يأتي:

1-الجهاد في سبيل الله تجارة رابحة: 

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ  يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ  وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ  فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِيبَايَعْتُمْ بِهِ  وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].

2-عِظم ثواب المرابطين في سبيل الله في الثغور، التي تحصَّن ضد العدو، فعن سلمان ? قال: سمعت رسول الله ? يقول: «رِباطُ يومٍ وليلةٍ خيرٌ من صيامِ شهرٍ وقيامِهِ، وإن ماتَ جرَى عليه عملُهُ الذي كان يعملُه، وأُجري عليه رزقُه، وأَمِنَ الفُتَّان».

3-فضل الحراسة في سبيل الله تعالى: 

عن أبي ريحانةَ  قال: سمعت رسول الله  يقول: «حُرِّمتِ النارُ على عينٍ دمَعتْ أو بَكَتْ من خشيةِ اللهِ، وحُرِّمتِ النارُ على عينٍ سهِرتْ في سبيل اللهِ». 

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله  يقول: «عَيْنانِ لا تَمَسُّهُما النارُ: عينٌ بكَتْ من خشْيةِ اللهِ، وعينٌ باتَتْ تحرُس في سبيلِ اللهِ».

4-الجهاد لا يعدله شيء: 

عن أبي هريرة قال: جاء رجلٌ إلى رسولِ اللهِ  فقال: دُلَّني على عملٍ يَعْدِلُ الجهادَ؟ قال: «لا أجِدُه»، قال: «هل تستطيعُ إذا خرَج المجاهدُ أن تدخُلَ مسجدَك فتقومَ ولا تَفْتُرَ، وتصومَ ولا تُفْطِرَ؟» قال: ومَنْ يستطيعُ ذلك؟.

مراتب الجهاد في سبيل الله

الجهاد له أربع مراتب: جهاد النفْس، والشيطان، والكفار والمنافقين، وأصحاب الظُّلْم والبِدَع والمنكَرات:

المرتبة الأولى: جهاد النفس:

وله أربع مراتب:

1 -  جهاد النفْس على تعلُّم أمور الدين والهدى.

2 -  جهاد النفس على العمل به بعد علْمه.

3 -  جهاد النفس على الدعوة إليه ببصيرة، وتعليمِه مَنْ لا يَعْلَمه.

4 -  جهاد النفس على الصبر على مَشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، وأن يُتَحمَّل ذلك كله لله.

المرتبة الثانية: جهاد الشيطان 

وله مرتبتان:

1 -  جهاده على دَفْع ما يُلْقي إلى العبد مِنَ الشُّبهاتِ والشُّكوك القادحة في الإيمان.

2 - جهاده على دَفْع ما يُلْقي إليه مِنَ الشَّهوات والإرادات الفاسدة، فالجهاد الأول بعد اليقين، والثاني بعد الصبر، قال الله تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا  وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [السجدة: 24]. والشيطان أخبث الأعداء، قال الله تعالى: { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا  إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ فاطر: 6].

المرتبة الثالثة: جهاد الكفار والمنافقين:

وله أربع مراتب: القلب واللسان، والمال واليد.

وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخصُّ باللسان.

المرتبة الرابعة: جهاد أصحاب الظلم والعدوان، والبِدَع والمنكَرات:

وله ثلاث مراتب:

1 -  باليد إذا قدَر المجاهد على ذلك.

2 -  فإن عجز انتقل إلى اللسان.

3 -  فإن عجز جاهد بالقلب، فقد روي عن أبي سعيدعن النبي أنه قال: «من رأى منكم منكَراً فليغيره بيده، فإن لم يستطعْ فبلسانِه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان».

فهذه ثلاثَ عشْرةَ مرتبةً مِنَ الجهاد، وأكمل الناس عند الله مَنْ كمَّل مراتب الجهاد كلها، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله تفاوتَهم في مراتب الجهاد.

الجهاد في القرآن والسنة

وردتْ كلمةُ "جهادٍ" بمشتقاتِها في القرآنِ الكريمِ إحدى وثلاثين مرَّةً، بينما وردتْ كلمةُ "حرْبٍ" أربعَ مراتٍ فقط، ونُلاحظُ أنَّ معنى الجهاد في القرآنِ وفي نصوصِ السُّنةِ المحمديةِ أوسعُ وأعمُّ من معنى القتالِ؛ إذ إن القتالَ يعني - تحديدًا - المواجهةَ المسلحةَ في الحروبِ، بينما يعني الجهادُ بذْلَ الجهدِ في مقاومةِ العدوِّ، سواءٌ كان هذا العدوُّ شخصًا معتديًا أو شيطانًا يجبُ على المؤمنِ مُجاهدتُه، أو حتى نفسَه التي بين جنبَيْه، والتي تزيِّنُ له فِعلَ الشرِّ.

وكما تتعدَّدُ معاني الجهادِ تتعدَّدُ وسائلُه أيضًا، فهناك الجهادُ بالنفسِ، أو بالمالِ، أو باللسانِ، بمعنى الحجةِ والبرهانِ، أو بالقرآنِ، وذلك في مجالِ بيانِ الإسلامِ ودعوةِ الناسِ إليه، فكلُّ هذه أنواعٌ ومعانٍ للجهادِ، يذكُرُها القرآنُ الكريمُ والسُّنةُ النبويةُ.

ومما جاء في القرآنِ من هذه المعاني خطابُ الله لنبيِّه محمدٍ  بالجهادِ بالقرآنِ قوله: وَجَٰهِدۡهُم بِهِۦ جِهَادٗا كَبِيرٗا   [الفرقان: 52].

والنبيُّ محمدٌ ص يُسمِّي جهادَ النفسِ والشيطانِ والهوى - الجهادَ الأكبرَ، مقارَنًا بالجهادِ الأصغرِ الذي هو القتالُ في ساحةِ الحربِ، ومن أمثلة الأحاديث التي تبيِّن ذلك:

قوله ص: «أفضلُ الجهادِ أنْ يُجاهِدَ الرجلُ نفسَه وهواه».

وقوله  ص: «المجاهدُ من جاهدَ نفْــسَه».

وقوله ص: «جَاهِـدوا أهواءَكم كما تجاهدونَ أعــداءَكم».

ويجبُ أنْ نعلمَ أنَّ الجهادَ الذي يكونُ بالنفسِ أو بالمالِ (كالقتالِ، وكتمويلِ الجيشِ مثلًا)، مشروطٌ – في القرآنِ - بأنْ يكونَ في سبيلِ اللهِ، ومن أجلِ أن تكونَ كلمةُ اللهِ هي العُليا.

ممَّا يضعُ أيديَنا منذُ البدايةِ على قاعدةٍ أصيلةٍ في الإسلامِ، هي ارتباطُ مشروعيةِ الجهادِ بغاياتٍ إنسانيةٍ نبيلةٍ، الأمرُ الذي يعني أنَّ الجهادَ في فلسفةِ الإسلامِ لم يُشرَعْ من أجلِ التوسعِ، أو احتلالِ الأرضِ، أو السيطرةِ على مواردِ الغيرِ، أو قهرِ الشعوبِ وإذلالِها، أو غيرِ ذلك من الأغراضِ الماديةِ التي شكَّلتْ بواعثَ الحربِ في كُبرى حضاراتِ العالمِ قديمًا وحديثًا.

وكلمةُ الجهادِ وإنْ كانت تحتملُ معانيَ عدَّةً غيرَ القتالِ -كما ذكرنا - إلَّا أنَّ استعمالَها في القتالِ في سبيلِ اللهِ، هو الاستعمالُ الأغلبُ والمشهورُ في أدبياتِ الإســلامِ.

الجهاد والحرب

الجهادُ ليس هو الحربَ كيفما كانت بواعثُها ومقاصدُها، بل هو الحربُ التي تكونُ في سبيلِ اللهِ فقط، فإذا خرجتِ الحربُ عن هذا الإطارِ، فإنَّها لا تكونُ جهادًا، وإنَّما تكونُ عملًا قبيحًا مرفوضًا في شريعةِ الإسلامِ وأخلاقِه. 

من هنا نستطيعُ أنْ نضعَ تعريفًا للجهادِ بأنَّه: القتالُ في سبيلِ اللهِ، سواءٌ كان بالاشتراكِ المباشرِ في العملِ العسكريِّ ( الحربِ )، أو بالمساعدةِ بالمالِ، أو بالرأيِ والتفكيرِ، أو بالخدماتِ الطبيةِ، أو بأيِّ مجهودٍ يُبذَلُ من أجلِ الدفاعِ عن العقيدةِ وعن الأوطانِ.

ولكنْ علينا أنْ نفرِّقَ بين كلمتَيْن يؤدِّي الخلطُ بينهما إلى الوقوعِ في سوءِ الفَهمِ حينَ نفسِّرُ الجهادَ بمعنى القتالِ في سبيلِ اللهِ، هاتان الكلمتان هما: "القتلُ" و"القتالُ"، والفرقُ بينهما كبيرٌ: فالقتلُ يعني مبادرةَ الآخرِ بالسلاحِ وقتْلَه، وهذا لا يتطلَّبُ إلَّا قاتلًا من جانبٍ، وقتيلًا من جانبٍ آخرَ، بخلافِ القتالِ؛ فإنَّه لا بدَّ فيه من طرفَيْن يُقاتِلُ كلٌّ منهما الآخرَ، ويُمارسُ كلُّ طرفٍ منهما فعْلَ القتلِ ضدَّ الطرفِ الآخرِ، والمعنى الذي تتضمَّنُه كلمةُ الجهادِ هو: المعنى الثاني، الذي هو "القتالُ"، وليس المعنى الأول الذي هو "القتلُ".

والنتيجةُ التي ينتهي إليها هذا التحليلُ: هي أنَّ الأمرَ بالجهادِ في الإسلامِ ليس أمرًا بالقتلِ، بل هو أمرٌ بالمقاتَلةِ، أي التصدي للمقاتلِ ومجاهدتُه؛ لردِّ عدوانِه ووقفِ هجومِه.

والجهادُ بهذا المعنى ليس إلَّا تسميةً إسلاميةً قديمةً لما يُعرَفُ الآن بوَزارةِ الدفاعِ، والتي كانت تُسمَّى إلى عهدٍ قريبٍ "وَزارةَ الحربيةِ"، أو المجالسَ العُليا للحربِ، ومثلُها وَزاراتُ المستعمراتِ في الغربِ، وكلُّها تسمياتٌ مسكونةٌ بانطباعاتِ الرعبِ والخوفِ والعدوانِ، ورغمَ ذلك فإنَّ أحدًا لم يُصادِرْ على الدولِ والأنظمةِ حقَّها في أنْ تكونَ لها وَزارةُ حربٍ أو دفاعٍ، مثلما نقرأُ عن النقدِ الظالمِ أو المصادرةِ التي  تتبنَّاها (الميديا) الأنجلو – أمريكية بالنسبةِ لحقِّ الجهادِ في الإسلامِ. 

ونحن ندَّعي أنَّ اسمَ (الجهادِ) أرقى وأحفلُ بالبُعدِ الإنسانيِّ من وَزارةِ الحربيةِ مثلًا؛  لأنَّ الحربَ – في شريعةِ الإسلامِ – تصدُقُ على الحربِ الهجوميةِ، وتصدُقُ على الحربِ الدفاعيةِ، سواءً بسواءٍ، بخلافِ الجهادِ؛ فإنَّه – لمن يفقَهُ اللغةَ العربيةَ – لا يصدُقُ إلَّا على الحربِ الدفاعيةِ فقط. 

وإذن ففريضةُ الجهادِ التي يعمَلُ الغربُ على تشويهِها ليست إلَّا حقَّ الدفاعِ عَنِ النفسِ، وعَنِ العقيدةِ، وعَنِ الوطنِ. وما أظنُّ أنَّ عاقلًا يُصَادرُ على هذا الحقِّ الطبيعيِّ، أو يَشغَبُ عليه بتلبيساتٍ وأباطيلَ، اللهمَّ إلَّا إذا كان من هؤلاءِ السوفسطائيِّين الجددِ العابثينَ بِبَدَائِهِ الأذهانِ ومُسلَّماتِ العقولِ.

فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب

 

شيخ الأزهر - رئيس مجلس إدارة الرابطة

هـ بـ

 الى القسم الثاني:

 http://www.zanayan.org/arabic/articles.php?id=1390&eid=264