رمضان بين المنافسة، والمسابقة، والمسارعة

رمضان بين المنافسة، والمسابقة، والمسارعة

 

الحمد لله، وأفضل الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:

فقد جعل الله لرمضان خط شروع؛ وهو: الإيمان، وجعل له نهاية وغاية؛ وهي: التقوى؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، فشرط الدخول في هذه المنافسة والمسابقة والمسارعة هو الإيمان؛ من أجل ذلك ابتدأ الخطاب بـ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾، وليس للناس، وإذا أردنا أن نقطف ثمرة هذه العبادة للوصول إلى التقوى، لا بد من المنافسة والمسابقة والمسارعة.

 

وكما هو معلوم أن المنافسة في الطاعات مشروعة، ولا سيما في رمضان؛ قال الله تعالى: ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين: 26]، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومًا وحضر رمضان: ((أتاكم رمضان شهر بركة، فيه خير يغشيكم الله فيه، فتنزل الرحمة، وتُحط الخطايا، ويُستجاب فيه الدعاء، فيَنظر الله إلى تنافُسكم، ويباهي بكم ملائكته؛ فأَرُوا الله من أنفسكم خيرًا؛ فإن الشقي من حُرِم فيه رحمةَ الله عز وجل))[1].

 

والأعمال هي محل نظر الله ورسوله والمؤمنين؛ قال الله تعالى: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 105].

 

والملاحَظ أن الآيتين جاءتا بصيغة الجمع: ﴿ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾، و﴿ اعْمَلُوا ﴾؛ فالخطاب لعموم المجتمع على اختلاف أجناسه، وفي هذا دعوة للعمل الجماعي لا الفردي على مستوى الطاعات، والله أعلم بالصواب.

 

وأما المسابقة، فقد وردت بقوله تعالى: ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الحديد: 21].

 

قال ابن فارس: "(سَبقَ) السين والباء والقاف أصل واحد صحيح يدل على التقديم"[2]، وقال ابن منظور: "السَّبْق: القُدْمة في الجري وفي كل شيء"[3]، وزاد الراغب: "ويستعار السَّبْق لإحراز الفضل والتبريز، وعلى ذلك: ﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ﴾ [الواقعة: 10]؛ أي: المتقدمون إلى ثواب الله وجنته بالأعمال الصالحة، وقوله: ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴾ [الواقعة: 60]؛ أي: لا يفوتوننا"[4].

 

قال القرافي: "وليست الغِبطة والمنافَسة بحرام؛ أي: لعدم تعلُّقها بمفسدة ألبتة، بل هي إما واجبة، وإما مندوبة، وإما مباحة؛ قال تعالى: ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين: 26]، والمسابَقة تقتضي خوف الفوت، فالواجبة تكون في النعم الدينية الواجبة كنعمة الإيمان والصلاة المكتوبة والزكاة، فيجب أن تُحِبَّ أن تكون مثل القائم بذلك، وإلا كنت راضيًا بالمعصية، والرضا بها حرام.

 

والمندوبة: تكون في الفضائل، والعلوم، وإنفاق الأموال في الميراث.

 

والمباحة: تكون في النعم المباحة كالنكاح، والمنافسة في المباحات لا يترتب عليها إثم، لكنها تنقص من الفضائل، وتناقض الزهد والرضا بالمقضيِّ والتوكل، وتحجب عن المقامات الرفيعة"[5].

 

وأما المسارعة، فقد وردت بقوله تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [آل عمران: 133-136].

 

قال ابن فارس: "(سَرُعَ) السين والراء والعين أصل صحيح يدلُّ على خلاف البطء؛ فالسريع: خلاف البطيء، وَسَرَعَانُ الناسِ: أوائلهم الذِين يتقدمون سِرَاعًا"[6]، وزاد ابن منظور: "وسارَعَ بمعنى أَسرعَ؛ يقال ذلك للواحد، وللجميع سارَعوا"[7]، وقال الراغب الأصفهاني: "السُّرْعَةُ: ضد البطء، ويستعمل في الأجسام، والأفعال... وسَرَعَانُ القوم: أوائلهم السِّرَاع"[8].

 

وقال القرافي: "قوله تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [آل عمران: 133]، فالمغفرة مضافة إلى الله تعالى ليست مقدورةً للعبد؛ فالأمر بالمسارعة إليها أمر بالمسارعة لسببها، والمعنى إما: سارِعوا إلى سبب مغفرة؛ من باب الإضمار، وإما أنه عبر بها عن سببها مجازًا علاقته المسببية"[9].

 

قال الرازي: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [آل عمران: 133]، فهذا يدل على أن المراد منه المسارعة في ترك ما تَقدم النهي عنه، والأَوْلى ما تقدم من وجوب حمله على أداء الواجبات، والتوبة عن جميع المحظورات؛ لأن اللفظ عام؛ فلا وجه في تخصيصه، ثم إنه تعالى بيَّن أنه كما تجب المسارعة إلى المغفرة فكذلك تجب المسارعة إلى الجنة؛ وإنما فصَل بينهما لأن الغفران معناه إزالة العقاب، والجنة معناها إيصال الثواب، فجمع بينهما للإشعار بأنه لا بد للمكلف من تحصيل الأمرين، فأما وصف الجنة بأن عرضها السموات، فمعلوم أن ذلك ليس بحقيقة؛ لأن نفس السموات لا تكون عرضًا للجنة، فالمراد كعرض السموات والأرض، المقصود المبالغة في وصف سعة الجنة؛ وذلك لأنه لا شيء عندنا أعرض منهما... فإن أطول الأشياء بقاءً عندنا هو السموات والأرض، فخوطبنا على وفق ما عرفناه، فكذا هاهنا، واعلم أنه تعالى لما بيَّن أن الجنة معدة للمتقين، ذكر صفات المتقين؛ حتى يتمكن الإنسان من اكتساب الجنة بواسطة اكتساب تلك الصفات"[10].

 

قال القشيري: "معناه: سارعوا إلى عمل يوجب لكم المغفرة، فتقسمت القلوب وتوهمت أن ذلك أمر شديد؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ((الندم توبة))، وإنما توجب المغفرة التوبة؛ لأن العاصي هو الذي يحتاج إلى الغفران.

 

والناس في المسارعة على أقسام: فالعابدون يسارعون بقدمهم في الطاعات، والعارفون يسارعون بهممهم في القربات، والعاصون يسارعون بندمهم بتجرع الحسرات، فمن سارع بقدمه وجد مثوبته، ومن سارع بهممه وجد قربته، ومن سارع بندمه وجد رحمته"[11].

 

وأقول : كل مسرع في الميدان فهو متسابق، وليس العكس، فالميدان يجمع المتسابقين عمومًا، مِن هنا جاء الخطاب للمتسابقين أن يسارعوا في الخيرات، وهذا ما أفهمه من كلام الرازي رحمه الله فقال: "واعلم أنه تعالى أمر بالمسارعة في قوله: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [آل عمران: 133]، ثم شرح هاهنا كيفية تلك المسارعة، فقال: سارِعوا مسارعة المسابِقينَ لأقرانهم في المضمار"[12]؛ من أجل هذا نجد صفات المتسارعين أعلى مقامًا من صفات المتسابقين؛ فهي: الإنفاق في السراء والضراء، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس، وهم ليسوا بمعصومين عن الخطيئة، ولكنهم رجَّاعون إلى الله بالاستغفار، ولا يوجد منهم إصرار على المعصية، من أجل هذا جاءت نتائج المتسارعين أعلى من المتسابقين، وهذا ما نلمحه بالفرق بين جنة المتسابقين وجنة المتسارعين؛ فجنة المتسابقين: ﴿ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ﴾ [الحديد: 21]، وجنة المتسارعين: ﴿ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]، فالفرق بين السماء والسموات واضح لذي لُبٍّ، وكافُ التشبيه في جنة المتسابقين ليست كغيرها في جنة المتسارعين؛ وكل ذلك لأن المتسابقين حققوا شرط أركان الإيمان: ﴿ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ﴾، والمتسارعين حققوا شرطَي التقوى: ﴿ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾، والإحسان: ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾، وكما هو معلوم أن الإحسان أعلى مقامًا من الإيمان، ولا يمكن تحقيقه إلا مرورًا بالتقوى، فكان جزاؤهم: ﴿ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾، وهناك: ﴿ وَجَنَّةٍ ﴾، والفرق بين صيغة الجمع والمفرد واضحة للعِيان، والملاحظ أن جنة المتسابقين فضل من الله محض؛ قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾، وجنة المتسارعين فضل من الله مع جزاء العمل؛ قال تعالى: ﴿ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾.

 

وإذا أنعمنا النظر في آية الصوم، نجدها بدأت بشرط الإيمان، وهو ما يتناسب مع المسابقة، وانتهت بالإحسان مرورًا بالتقوى، وهو ما يتناسب مع المسارعة، وهو ما يحقق الغاية النهائية من الصوم، وهي التقوى: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾.

 

والذي يعين على تحقيق هذا الهدف المنشود من هذه العبادة العظيمة هو استشعار المنافسة بين الفرد وأمَّته، وبين أمته وباقي الأمم: ﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾؛ فالمطلوب هو المنافسة والمسابقة والمسارعة في شهر الصوم، وكل ذلك ملاحظ ومسجَّل ومدوَّن؛ قال الله تعالى: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة:105].

 

ومن الوسائل المهمة والناجعة لتحقيق هذا الهدف المنشود: المحاسبة اليومية في شهر الصوم، فمن داوم عليها نجا بعد فضل الله ورحمته؛ من أجل ذلك قال الفاروق عمر بن الخطاب: "حاسِبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وتزينوا للعرض الأكبر، وإنما يخفُّ الحساب يوم القيامة على مَن حاسَب نفسه في الدنيا"[13]، وإخال أنه رضي الله عنه انطلق من النصوص المتكاثرة التي تحث على ذلك، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((الكَيِّس من دان نفسه وعَمِل لِما بعد الموت، والعاجز مَن أتْبَع نفسه هواها وتمنَّى على الله))؛ هذا حديثٌ حَسَنٌ، ومعنى قوله: ((من دان نفسه)) يقول: حاسَبَ نفسه في الدنيا قبل أن يُحاسَب يوم القيامة[14]؛ من أجل ذلك سأرفق جدولًا مقترَحًا بطاعات منصوص عليها في السُّنة المطهرة؛ لعله يكون نافعًا في بابه، ولكي لا يُهدر وقت رمضان في غير محله.

 

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

[1] ينظر مسند الشاميين للطبراني (3/ 271) 2238، وقال المنذري والهيثمي: "رواه الطبراني ورواته ثقات، إلا أن محمد بن قيس لا يحضرني فيه جرح ولا تعْديل"؛ ينظر: الترغيب والترهيب للمنذري (2/ 60: 1490)، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (3/ 142، 4783).

[2] مقاييس اللغة (3/ 129).

[3] لسان العرب (10/ 151).

[4] المفردات في غريب القرآن (1/ 395).

[5] ينظر الفروق للقرافي = أنوار البروق في أنواء الفروق (4/ 244).

[6] مقاييس اللغة (3/ 152).

[7] لسان العرب (8/ 151).

[8] المفردات في غريب القرآن (1/ 407).

[9] الفروق للقرافي = أنوار البروق في أنواء الفروق (2/ 18).

[10] تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (9/ 365).

[11] لطائف الإشارات = تفسير القشيري (1/ 277).

[12] تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (29/ 464).

[13] سنن الترمذي ت شاكر (4/ 638: 2459).

[14] سنن الترمذي ت شاكر (4/ 638: 2459).