تجديد الخطاب الديني

 

د. على جمعة / مفتى الديار المصرية السابق

جاءت الشريعة الإسلامية بمدح التجديد‏,‏ وبيان أهميته‏,‏ بل إن نصوص الشرع الشريف نفسها تؤكد ذلك المعنى,‏ فتارة يحدثنا الشرع الشريف عن التجديد باعتباره أمرا واجب التنفيذ‏.‏ ويحث عليه المسلمين‏, ‏وذلك في مقام الإيمان‏,‏ فإن الإيمان نفسه يبلى ويخلق ويحتاج إلى أن يجدد في قلوب الموحدين‏,‏ وذلك في قول النبي لأصحابه جددوا إيمانكم‏,‏ قيل يا رسول الله‏:‏ وكيف نجدد إيماننا؟‏,‏ قال‏:‏ أكثروا من قول لا إله إلا الله ‏(مسند أحمد‏327/14,‏ ومستدرك الحاكم‏285/4).

وتارة يحدثنا الشرع عن التجديد في الدين على أنه نعمة يمن الله بها على هذه الأمة الخاتمة‏,‏ ومن هذا قول النبي‏:‏ إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها ‏(سنن أبي داود ‏109/4,‏ ومستدرك الحاكم ‏567/4).‏

منذ ذلك الحين وعلماء الأمة يمتدحون التجديد‏,‏ ويرون أنه أمر ديني ونعمة من نعم الله علينا‏,‏ والتجديد لم يكن قط موضع اتهام وريب في العصور السابقة‏,‏ لذلك ظل تجديد الخطاب الديني موجودا وحاضرا في الغالب طول تاريخ الإسلام‏,‏ كل زمن حسب مقتضياته وأدواته‏,‏ وطبقا لظروفه‏,‏ وأحواله‏، وذلك ما جعل هذا الدين صالحا لكل زمان ومكان‏,‏ حتى أظلنا العصر الحاضر فصارت لمصطلح التجديد دلالات سلبية عند كثير من الملتزمين التراثيين لما شاع عندهم من أن التجديد معناه التفلت من تكاليف الشرع كلها أو بعضها‏,‏ أو الأخذ بالشاذ من الأقوال ومخالفة ما استقر عليه العلماء المخلصون‏,‏ أو أن المراد من التجديد هو الانتقاء من النصوص الشرعية‏,‏ ما يتفق والأهواء والمصالح الشخصية‏,‏ أو أن التجديد يشمل الثوابت والمتغيرات‏,‏ لكل ذلك شاع عند العامة من المتدينين تلك السمعة السيئة عن التجديد وأهله ودعاته‏,‏ وواجه علماء الإسلام المخلصون في دعوتهم للتجديد أشد الصعوبات في بيان ما يقصدونه من كلمة التجديد‏.

وحتى نزيل ذلك اللبس من نفوس المتخوفين نقول إن لفظ التجديد ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية بمعنى البعث والإحياء والإعادة‏,‏ وليس بمعنى الإنشاء والخلق‏,‏ وهذا ما أثبتته التجربة التاريخية عند علماء المسلمين‏,‏ حيث نجد فطنة الإمام الغزالي وبراعته حين رأى أن الفقه قد انفصل عن المقاصد النفسية والشعورية التي تدعو المؤمن للتقوى والخشوع والورع إلى عبادة الله بعد أن غفل الفقه عن هذا وخلا منه وأصبح جسدا بلا روح وشكلا بلا مضمون عكف على الخروج من هذه الحالة بتجديد علوم الدين والرجوع بالخلق إلى مقصود الشرع منهم‏,‏ وهو عبادة الله عز وجل‏,‏ وعمارة الأرض‏,‏ وتزكية النفس‏,‏ فألف كتابه الماتع إحياء علوم الدين مع ما في كلمة إحياء من دلالة تؤيد ما نقصده من تجديد الخطاب الديني‏,‏ وهو أننا نعني به تجديد القوالب‏,‏ والوسائل التي نعرض فيها الفقه الإسلامي بمعناه الشرعي والحضاري‏,‏ وهو ما نسميه إدراك الواقع ونستدل بهذا على أن الفهم في النصوص متجدد‏,‏ ولا يكون كذلك إلا عن طريق أدوات الفهم الواردة في التراث مع ما يقتضيه الواقع من متغيرات وتعقيدات‏.‏

إن واجب الوقت يحتم علينا أن نقتدي بما فعله الأعلام المسلمون على مر التاريخ في قضايا التجديد‏,‏ وأن نراعي أنهم التزموا بضوابط كثيرة ينبغي علينا أن نتأملها وأن نتدبرها وأن نجرد ما فيها من معان‏,‏ وأن نحولها إلى مناهج متبعة حتى ولو تجاوزنا بها أزمانهم ومسائلهم التي كانت تشغل بالهم أو التي كانت محل نزاعهم وجدالهم‏,‏ لأن هذا لا يعنينا كثيرا أن نقف عند مسائل كل عصر فإن لكل عصر واجبا‏,‏ وينبغي علينا أن ندرك واجب عصرنا ونعيش فيه وله وبه‏,‏ ومن الممكن أن نستفيد من مناهجهم دون أن نقف عند مسائلهم‏.‏

وحتى تؤتي عملية التجديد ثمارها لابد من توافر شروط في كل من التجديد والمجددين‏,‏ أما التجديد فيجب مراعاة المزج بين ثلاثة عناصر في التراث الإسلامي‏,‏ وهي‏:‏ المصادر‏,‏ وإدراك المصادر في ظل الواقع‏,‏ وربط المصادر بالواقع‏.‏

فمن حيث المصادر فالقرآن والسنة مصدران معصومان‏,‏ وهناك مصادر أخرى كباقي أدلة الفقه المعتبرة كالإجماع والقياس والمصالح المرسلة وهناك مصادر تعد التطبيق العملي لاستنباط الأحكام من هذه المصادر‏,‏ وهي التراث الفقهي الموروث‏.‏ فالمجدد يضع هذه المصادر أمامه ولا تغيب عنه في أثناء قيامه بعملية التجديد‏,‏ وكذلك عليه ألا يغيب عن الواقع‏,‏ وهو العنصر الثاني المتمثل في إدراك المصادر في ظل الواقع بعوالمه الأربع التي تتغير بها الفتاوى والأحكام‏,‏ وهي‏:‏ عالم الزمان والمكان والأشخاص والأحوال. ‏والعنصر الثالث -وهو الأهم- الربط بين المصادر‏,‏ وإدراكها‏,‏ وإدراك الواقع‏,‏ حتى لا يوقع المجتهد كلاما مكتوبا في الكتب على واقع قد تغير تغيرا شديدا‏,‏ ولم يعد هو المذكور في الكتب‏,‏ وهو ما سماه الإمام القرافي ضلال مبين ومن يفعله ضال مضل‏.‏

وأما من حيث شروط المجددين فالمحققون من العلماء رأوا أن المجدد الوارد في الحديث النبوي لا يختص بفرد وإنما قد يكون جماعة‏,‏ ولعل ما ذهبوا إليه لا ينطبق على عصر كما ينطبق على عصرنا الذي كثرت فيه التخصصات وتعددت فيه الرؤى والثقافات‏,‏ وتلاحمت فيه دول العالم عن طريق التقنيات الحديثة المتمثلة في ثورة المعلومات ودقة وسائل المواصلات والاتصالات بجوانبها المختلفة‏,‏ ولذلك فالتجديد لا يقوم بأعبائه شخص واحد أو عدد قليل من المجتهدين‏,‏ وإنما تقوم به المؤسسات العلمية كل في تخصصه‏,‏ على أن يتم ذلك في تعاون وتكامل مع المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي‏,‏ وفي مقدمتها الأزهر الشريف الذي كان له قصب السبق في هذا الميدان منذ إنشائه في القرن الرابع الهجري حتى يومنا هذا‏,‏ خاصة مع ما يتمتع به من سمة طيبة ووسطية واعتدال وتوازن وانفتاح على كل من يريد الخير والنفع للإنسان والكون والحياة‏.‏