لطائف ربيع الأنوار

لطائف ربيع الأنوار (1)
قال  ابن  الحاج محمد بن محمد بن محمد العبدري المالكي الفاسي(737هـ): فإن  قيل:  ما  الحكمة  في  كونه  عليه  الصلاة  والسلام  خص  مولده  الكريم  بشهر  ربيع  الأول  ويوم  الاثنين،  ولم  يكن  في  شهر  رمضان  الذي  أنزل  فيه  القرآن  وفيه  ليلة  القدر،  ولا  في  الأشهر  الحرم،  ولا  في  ليلة  النصف  من  شعبان ، ولا  في  يوم  الجمعة  وليلتها  ؟  
فالجواب  من  أربعة  أوجه  :
الأول : ما  ورد  في  الحديث:  من  أن  الله  خلق  الشجر  يوم  الاثنين ،  وفي  ذلك  تنبيه  عظيم ؛ وهو  أن  خلق  الأقوات  والأرزاق  والفواكه  والخيرات  التي  يمتد  به  بنو  آدم  ويحيون  وتطيب  بها  نفوسهم . 
الثاني : أن  في  لفظة  ربيع  إشارة  وتفاؤلاً  حسناً  بالنسبة  إلى  اشتقاقه  وقد  قال  أبو  عبد  الرحمن  الصقلي : لكل  إنسان  من  اسمه  نصيب .    
الثالث : أن  فصل  الربيع  أعدل  الفصول  وأحسنها  وشريعته  أعدل  الشرائع  وأسمحها .   
الرابع : أن  الحكيم  سبحانه  أراد  أن  يشرف  به  الزمان  الذي  ولد  فيه  فلو  ولد  في  الأوقات  المتقدم  ذكرها..  لكان  قد  يتوهم  أنه  يتشرف  بها . 
اقول:  والرابع  ما  تميل  اليه  النفس  ويطمئن  له  القلب،  فرسول  الله صلى الله عليه وسلم  ممن  يتشرف  الزمان  به  وليس  العكس؛  من  اجل  هذا  حول  رسول  اليه صلى الله عليه وسلم يوم  ولادته  الاثنين  الى  يوم  صيام،  فقال  عندما  سئل  عن  صيام  يوم  الاثنين : ((ذلك  يوم  ولدت  فيه )) . 
قال الشيخ الإمام محمد بن أبي جمرة فيما نقله عنه ابن الحاج في (المدخل) ما نصّه: ( إنه صلى الله عليه وسلم  تتشرّف الأشياء به لا هو يتشرّف بها ، فلو بقي في مكة لكان يتوهّم أنه قد تشرف بمكة ، فلما أراد الله تعالى أن يبيّن لعباده أنه صلى الله عليه وسلم أفضل المخلوقات كانت هجرته إلى المدينة فتشرّفت به ،ألا ترى أن ما وقع من الإجماع على أنَّ أفضل البقاع الموضع الذي ضم أعضاءه الكريمة صلوات الله وسلامه عليه).
يُنْظَر: المدخل لابن الحاج: (1: 257)، الحاوي للفتاوي: (1  : 189) .
 
ربيع الأنوار(2)
قَدرُ النَّبِيِ صلى الله عليه وسلم عظيم عند ربه عز وجل، لا يحيط به إلا هو.... ويتفاوت العلم بذلك القدر عند الخلائق الأفضل ثم الأفضل، ومن لم يدرك من قدره شئياً فإنه محروم وَحُقَّ له أن يذرف الدموع حزناً على ذلك.
قال الإمام السبكي: (لَا يقدر أحد النَّبِيَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حق قدره إِلَّا الله تَعَالَى وَإِنَّمَا يعرف كل وَاحِد من مِقْدَاره بِقدر مَا عِنْده هُوَ...فأعرف الْأمة بِقَدرِهِ أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ لِأَنَّهُ أفضل الْأمة...وَإِنَّمَا يعرف أَبُو بكر من مِقْدَار الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا تصل إِلَيْهِ قوى أبي بكر وَثمّ أُمُور تقصر عَنْهَا قواه لم يحط بهَا علمه ومحيط بهَا علم الله). طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (6/ 203).
 
ربيع الأنوار (3)
مدح النبي صلى الله عليه وسلم عبادة لا يوفق لها إلا من خصه الله بالخير العميم، ولعظمة هذه العبادة طلب أكابر الأصحاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم الإذن في مدحه فإذن لهم.
فالمدح اصطلاحاً  : هو  الثناء  باللسان  على  الجميل  مطلقا ، وهو بمعنى  عد  المآثر  والمناقب ، وهو يدل  زيادة  على  الرضى...والغرض  من  المدح  صفة : هو  إظهار  كمالات  الممدوح  والاستلذاذ  بذكرها. كتاب  الكليات  : (1  : 1607) .   
والأصل في استحباب مدحه صلى الله عليه وسلم مدح الله له في كتابه وهذا تعليم للأمة وارشاد لها ويكفي في ذلك قول الله في حقه: ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ )( القلم: 4)، ومدح الجزء يقتضي مدح الكل وفي الآية من وجوه البلاغة مالا يخفى على ذي لبّ.
وقوله لعمه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عندما أستأذنه في مدحه: «قُلْ لَا يُفَضْفِضُ اللَّهُ فَاكَ»، فعن خُرَيْمَ بْنَ أَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ لَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: هَاجَرْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْصَرَفَهُ مِنْ تَبُوكَ، فَأَسْلَمْتُ فَسَمِعْتُ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَمْتَدِحَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ لَا يُفَضْفِضُ اللهُ فَاكَ» قَالَ: فَقَالَ الْعَبَّاسُ:
مِنْ قَبْلِهَا طِبْتَ فِي الظِّلَالِ وَفِي ... مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يَخْصِفُ الْوَرِقُ
ثُمَّ هَبَطَتَ الْبِلَادُ لَا بَشَرٌ ... أَنْتَ وَلَا مُضْغَةٌ وَلَا عَلَقُ
بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفِينَ وَقَدْ ... أَلْجَمَ نَسْرًا وَأَهْلَهُ الْغَرَقُ
تُنْقَلُ مِنْ صَالبٍ إِلَى رَحِمٍ ... إِذَا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ
حَتَّى احْتَوَى بَيْتُكَ الْمُهَيْمِنُ مِنْ ... خِنْدِفَ عَلْيَاءَ تَحْتَهَا النُّطُقُ
وَأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ ... وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الْأُفُقُ
                  فَنَحْنُ فِي ذَلِكَ الضِّيَاءِ وَفِي ... النُّورِ وَسُبِلِ الرَّشَادِ نَخْتَرِقُ.   ينظر معجم الطبراني الكبير: ( 4/ 213)، والمستدرك على الصحيحين للحاكم (3 / 369): (5417)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ تَفَرَّدَ بِهِ رُوَاتُهُ الْأَعْرَابُ عَنْ آبَائِهِمْ، وَأَمْثَالُهُمْ مِنَ الرُّوَاةِ لَا يَضَعُونَ» ، ودلائل النبوة للبيهقي: ( 5/ 268).   
واقراره لحسان بن ثابت رضى الله عنه عندما هجا قريشا وأمتدح نسبه الشريف صلوات ربي وسلامه عليه ، بقولهم: «اهْجُهُمْ» ....فقال حسان: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنَ الْعَجِينِ. ثم قال 
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ ... وَعِنْدَ اللهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا بَرًّا حَنِيفًا ... رَسُولَ اللهِ شِيمَتُهُ الْوَفَاءُ
فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي ... لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ. صحيح مسلم (4 / 1935): (2490)
 
ربيع الانوار(4)
يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم عظيم؛ وهو يوم فرح وسرور وحبور للمؤمنين، أظهر النبي صلى الله عليه وسلم الفرح فيه فتجسد ذلك بصومه لهذا اليوم-الإثنين-شكراً لله وهو ما صرح به صلوات ربي وسلامه عليه عندما سئل عن سبب صيامه لهذا اليوم من كل أسبوع فقال: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ -أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ -» صحيح مسلم (2/ 819) (1162).
وهذا هو منهج الأنبياء واتباعهم فتراهم يصومون شكرا لله وهم يظهرون الفرح لمناسبة عزيزة على قلوبهم، فقد صام سيدنا موسى واتباعه يوم عاشوراء شكرا لله وهم يظهرون الفرح بهذا اليوم؛ لأنه يوم نجى الله فيه موسى واغرق فيه الطاغية فرعون، وأقر المصطفى صلى الله عليه وسلم على هذا المنهج لأمته بقوله وفعله فصامه وأمر أمته بصيامه؛ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟» فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، أَنْجَى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا، فَنَحْنُ نَصُومُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ» صحيح مسلم (2/ 796) (1130)
ويوم المولد النبي صلى الله عليه وسلم يومٌ حزينٌ وكئيبٌ على الشيطان أظهر فيه حزنه وألمه-فرَنَّ-أي: فصاح صيحة شديدة بصوت مرتفع حزين مع البكاء، وهذا هو معنى "الرَنّة" في اللغة. ينظر مقاييس اللغة (2/ 380)؛ وهي من أربع رَنّاتٍ له لعنه الله أُثرت عنه بالأثر الذي أخرجه بَقِيّ بْنِ مَخْلَدٍ فِي تَفْسِيرِ فقال: (أَنّ إبْلِيسَ-لَعَنَهُ اللهُ -رَنّ أَرْبَعَ رَنّاتٍ: رَنّةً حِينَ لُعِنَ، وَرَنّةً حِينَ أُهْبِطَ، وَرَنّةً حِينَ وُلِدَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَرَنّةً حِينَ أُنْزِلَتْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ... قَالَ: وَالرّنِينُ وَالنّخَارُ مِنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ). ينظر الروض الأنف/ فَصْلٌ فِي الْمَوْلِدِ (2/ 93). 
فكن رحمك الله في يوم مولده صلى الله عليه وسلم من الفرحين المسرورين 
 
ربيع الأنوار (5)
من المِنن الظاهرة العظيمة التي مَنَّ الله بها على الأمة؛ منة مبعث النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]؛ وهي مِنَّة ما بعدها من مِنَّة إذ كلُ المِنن التي ذكرت في الكتاب والسنة مرجعها لهذه المِنَّة ؛ فالمنن ثلاثة؛ ثنتان في الدنيا وواحدة في الآخرة، فأما التي في الآخرة هي منة النجاة من النار قال الله تعالى: {فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27]؛ وأما اللتان في الدنيا؛ فأولها فهي منة مبعثه صلى الله عليه وسلم، وثانيها منة الهداية للإسلام قال الله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17] وكلاهما-أي: منة النجاة من النار، ومنة الهداية- ما كانا لولا مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك جاءت منة مبعثه بصيغة التأكيد(لقد) دون غيرها من المنن... واستشعر الأصحاب هذه المِنّة في مجالسهم العامة والخاصة فكانوا يتذاكرون فيها ويحمدون الله عليها، فكان ثوابهم تباهي الله بهم على ملائكته؛ فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: «مَا أَجْلَسَكُمْ؟» قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ، وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا، قَالَ: «آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ؟» قَالُوا: وَاللهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ، قَالَ: «أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي، أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ» صحيح مسلم (4/ 2075) (2701)، وأخرجه أحمد، والنسائي بلفظ: (وَمَنَّ عَلَيْنَا بِكَ) مسند أحمد :(28/ 49)(16835)، سنن النسائي (8/ 249) (5426)...والجدير بالذكر ان الله يباهي بعبادة الملائكة في أربعة مواضع ذُكرت بالسنة النبوية هذه أولها، والثانية: وقوف  الحاج  على  صعيد  عرفة، والثالثة : انتظار  الصلاة  المكتوبة، والرابعة : قيام  الليل وكلها ورد ذكرها بالأحاديث الصحيحة.
 
ربيع الانوار (٦)
من لطائف الوقوف في قراءة  القرآن الكريم الوقوف على  قوله: { فِيمَ } ثم الابتدأ بقوله: (أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا) في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)} [النازعات: 42 - 45]، وهذا الوقوف اللطيف نستشعر  منه  رفعة  مقام  النبي صلى الله عليه وسلم عند  ربه  جل  جلاله فأعطاه هذا المقام دون غيره من الأنام.
فهو خبر لمبتدأ محذوف، وتقديره فيم هذا السؤال الذي  يسألونه؟ وفي هذاإنكار  لسؤالهم كما هو معلوم ...ثم  تبتدئ القراءة بقوله تعالى : (أنت من ذكراها)؛  أي: أرسالك  وأنت خاتم الأنبياء وآخر  الرسل المبعوث في نسم الساعة  ذكر من ذكراها وعلامة من علاماتها، فكفاهم بذلك دليلاً على دنوها ومشارفتها  ووجوب الاستعداد لها، وعليه فلا معنى  لسؤالهم عنها فأنت العلامة وانت البينة والبرهان..وهذا ما ذهب اليه الزمخشري، والبيضاوي والنسفي وغيرهم، ومصداق ذلك كله قوله صلى الله عليه وسلم: " بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَذِهِ مِنْ هَذِهِ، أَوْ: كَهَاتَيْنِ " وَقَرَنَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى. صحيح البخاري (7/ 53) (5301) ...والملاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قرب المعنى لدنو قرب الساعة لأمته بالإشارة باصبعين من أصابع يده الشريفة؛ السبابة والوسطى واللصق بينهما. وهنا أختلف شراح الحديث في هذا التمثيل على وجهين؛ الأول: إن الذي مضى من عمر الدنيا كطول أصبع السبابة بالمقارنة مع الوسطى فلم يبقى منها إلا بقدر المسافة التي زادت بها الوسطى على السبابة وهي تشكل نصف سُّلاَمَى الأخيرة من الوسطى وهذا يعني أنه لم يبقى من عمر الدنيا الا هذا القدر القليل قياسا بطولها، والثاني: ان الالتصاق بين أصبع السبابة والوسطى في المشاهد والتمثيل كما مثله المصطفى كان التصاقا كاملا إلا في نقرة في بداية الأصبعين المتصلين بكف اليد وعليه فلم يبقى من عمر الدنيا إلا بقدر هذه النقرة ، وفي كلا الوجهين دلالة على إنقضاء أغلب عمر الحياة الدنيا ولم يتبقى منها إلا القليل... وهذا التمثيل من الرسول الأعظم كان قبل ألف واربعمئة وأربعة واربعون سنة فكم بقى من عمر الدنيا؟ نسأل الله حسن الختام وأن يجعلنا من أتباع خير الأنام.
 
ربيع الأنوار (7)
أسباب الخروج من الظلمات إلى النور في القرآن الكريم أربعة؛ أولها: حقيقيٌ؛ وهو الله تبارك وتعالى قال الله تعالى {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257]، والثلاثة الباقية أوكل لها الإخراج من الظلمات إلى النور من باب المجاز؛ وهي تدل على رفعة مكانة هذه الأسباب عند الله تبارك وتعالى؛...أولها: الرسول صلى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [المائدة: 15، 16]، وثانيها القرآن الكريم  الذي أنزل على الرسول: قال  تعالى {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [إبراهيم: 1]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } [الحديد: 9]، وثالثها : الصلاة  على  النبي   : التي أمرنا الله  في كتابه الكريم والجزاء لمن أمتثل هذا الأمر عظيم؛ وهو أن يصلي الله بها عليه عشرا ؛ فعن عبد  اللهِ   بن  عَمْرِو  بن  الْعَاصِ:  أَنَّهُ  سمع  النبي   يقول : ( ... فإنه  من  صلى  عَلَيَّ  صَلَاةً.. صلى  الله  عليه  بها  عَشْرًا ، ...) صحيح  مسلم: (1  : 288) (384)،  ومعنى  صلاة  الله  على  عباده إخراجهم  من  الظلمات  إلى  النور ومصداق ذلك قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]؛ فالصلاة  على  رسول  الله صلى الله عليه وسلم من أعظم أسباب الخروج من الظلمات إلى النور... فاستمسك رحمك بهذه الأسباب، ولذ برب الأسباب ليحصل لك المقصود في عصر سادت به الظلمات المشار إليها بصيغة الجمع في الآيات البينات وكفى بذلك واعضا فتأمل.
 
ربيع الأنوار(8)
الهادي أسم من أسماء الله الحسنى، والهداية مختصة بالله تبارك وتعالى فهو صاحب الهداية وهو الهادي الحقيقي إلى الإسلام قال عز وجل: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ...} [البقرة: 272]، وقال الله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56]، ولا تُنسب الهداية لغيره إلا من قبيل المجاز؛ وهي تدل على رفعة مقام من نُسبت إليه عند ربه وإلا لما نسب الهداية لهم دون غيرهم؛ وهما: الرسول الأعظم، والقرآن المفخم؛ قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الشورى: 52]، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، فالذي يقف صادقا أمام رسول الله وأمام كتاب الله سيقوده المصطفى والقرآن إلى الهداية والاسلام فهما سببان عظيمان من أسباب الهداية. ولا يخفى على مطلع في اللغة الفرق بين قوله تعالى: (لتهدي) و(يهدي) وما سبقهما من أحرف التأكيد في السياق القرآني وما يترتب عليه من ذوق رفيع بمدح مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ربه جل جلاله. والتفت الإمام الرازي الى ملمح لرفع شبهة التعارض بين قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) وقوله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي) فقال: ولا تنافي بينهما؛ فإن الذي أثبته وأضافه إليه-صلى الله عليه وسلم-الدعوة والبيان، والذي نفى عنه هداية التوفيق وشرح الصدر؛ وهو نور يقذف في القلب فيحيا به القلب كما قال سبحانه: 
( أَوَ  مَن  كَانَ  مَيْتًا  فَأَحْيَيْنَاهُ  وَجَعَلْنَا  لَهُ  نُورًا ) مفاتح  الغيب  : (25  : 3) . 
 
ربيع الأنوار(9).
دفع شبهة من يقول بأن ذكرى ميلاده صلى الله عليه وسلم هي يوم وفاته فكيف تفرحون بيوم الوفاة؟ أقول: إن يوم الثاني عشر من ربيع الأول ويوم الاثنين فيه ليس هو يوم الولادة والوفاة فقط بل اجتمع فيه كل الأمور العظام، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َيوم الاثنين ونبىء يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَرَفَعَ الْحَجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَرَجَ مُهَاجِرًا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَدَخَلَ الْمَدِينَةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَقُبِضَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. الحاوي الكبير (14/ 95)، واجتماع هذه الأمور العظام في هذا اليوم دون غيره ملحظ يعرفه العارفون بالله...وأجاب السيوطي عن هذه الشبهة فقال: (إن ولادته صلى الله عليه وسلم أعظم النعم علينا، ووفاته أعظم المصائب لنا، والشريعة حثت على إظهار شكر النعم والصبر والسلوان والكتم عند المصائب، وقد أمر الشرع بالعقيقة عند الولادة وهي إظهار شكر وفرح بالمولود، ولم يأمر عند الموت بذبح ولا غيره، بل نهى عن النياحة وإظهار الجزع، فدلت قواعد الشريعة على أنه يحسن في هذا الشهر إظهار الفرح بولادته صلى الله عليه وسلم دون إظهار الحزن بوفاته). حسن المقصد في عمل المولد (ص 53-54) ...واقول: وفطرت النفس البشرية عند اجتماع سبب الفرح والحزن أن تغلب الفرح على الحزن هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ان الله تبارك وتعالى عندما ذكر لنا وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قرنها بالشكر لا الصبر؛ قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، فالشكر أعلى من الصبر فكل شاكر صابر وليس كل صابر شاكر. ينظر مدارج السالكين:(2: 242)، وانقضاء حياته روحي فداه علامة على اكتمال الدين وهذا ما فهمه الصديق. ينظر صحيح  البخاري  : (4  : 1563) (4043)، وأما مغزى ذكر  الشكر  هنا دون الصبر  لسبين  ورد  النص  بهما : أولاً : عَنْ  أَبِى  مُوسَى  عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم   قَالَ  :«  إِنَّ  اللهَ  عَزَّ  وَجَلَّ  إِذَا  أَرَادَ  رَحْمَةَ  أُمَّةٍ  مِنْ  عِبَادِهِ  قَبَضَ  نَبِيَّهَا  قَبْلَهَا  فَجَعَلَهُ  لَهَا  فَرَطًا  وَسَلَفًا  بَيْنَ  يَدَيْهَا ، وَإِذَا  أَرَادَ  هَلَكَةَ  أُمَّةٍ  عَذَّبَهَا  وَنَبِيُّهَا  حَىٌّ  فَأَهْلَكَهَا  وَهُوَ  يَنْظُرُ  فَأَقَرَّ  عَيْنَهُ  بِهَلَكَتِهَا  حِينَ  كَذَّبُوهُ  وَعَصَوْا  أَمْرَهُ». صحيح مسلم:(7: 65) (6105).
قال القرطبي: إنما كان موت النبي   قبل أمته رحمة لأمته؛ لأنَّ الموجب لبقائهم بعده إيمانهم به، واتباعهم لشريعته، ثم إنهم يصابون بموته، فتعظم أجورهم بذلك؛ إذ لا مصيبة أعظم من فقد الأنبياء، فلا أجر أعظم من أجر من أصيب بذلك، ثم يحصل لهم أجر التمسك بشريعته بعده، فتتضاعف الأجور، فتعظم الرحمة. المفهم  لما  أشكل  من  تلخيص  كتاب  مسلم  :(8  : 204) . ثانياً: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ    قَالَ: (حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُحَدِّثُونَ وَنُحَدِّثُ لَكُمْ، وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ، فَمَا رَأَيْتُ مِنَ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللهَ عَلَيْهِ، وَمَا رَأَيْتُ مِنَ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ اللهَ لَكُمْ). وصححه العراقي، وأبو زرعة العراقي، والهيثمي، والسيوطي. ينظر المغني عن حمل الأسفار:(2: 1051)، وطرح التثريب: (4: 308)، ومجمع الزوائد: (8: 313)، والخصائص الكبرى: (2: 418). 
 
ربيع الأنوار: (10)
محبطات الأعمال في القرآن سبعة وهي: 1-الإشراك بالله:  قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الزمر: 65]، 2-الردة:  {... وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة: 217]، 3-الكفر بآيات الله  وقتل  الأنبياء ،  وقتل  الذين  يأمرون  بالمعروف  من  الناس : قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } [آل عمران: 21، 22]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 147]، وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105]، 4-كراهة  شيء  من  القرآن ،  وإتباع  ما  اسخط  الله: قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105]، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } [محمد: 28]، 5-النفاق: قال الله تعالى: { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب: 19]، وقال تعالى:{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 52، 53]، 6-مشاققة الرسول صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ } [محمد: 32]، 7-سوء الأدب مع  رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } [الحجرات: 2]، والملاحظ  في  هذه  الآية  الشريفة ان الله سوى بين الاشراك به، والردة ، وكراهية شيء من القرآن، والنفاق، ومشاققة الرسل مع سوء الأدب معه صلى الله  عليه وسلم برفع الصوت عنده في الحكم والأثر فجعلهم جميعاً ممن تحبط أعمالهم في الدنيا والاخرة والعياذ بالله، والملفت للنظر في هذه الآية أيضا  أن  الله  سلب  عقل  من  أساء  الخطاب  معه  فحكم  عليه  ان  لا  عقل  له  فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4]، وعلى  العكس  من  ذلك  من  التزم  الأدب  معه  صلى الله عليه وسلم  لهم  مغفرة  واجر  عظيم  بعد  اجتيازهم  امتحانهم  ونجاحهم  فيه  قال  تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 3].
 
ربيع الأنوار(12)
من نوادر نوادِ الفقهاءِ في مدحِ سيدِ الشفعاءِ قولهم: وأفضل المياه ماء تبع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم واستدلوا على ذلك بحديث أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ، فَأُتِيَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ، فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ، فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِيهِ» قَالَ أَنَسٌ: «فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى المَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ» قَالَ أَنَسٌ: فَحَزَرْتُ مَنْ تَوَضَّأَ، مَا بَيْنَ السَّبْعِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ. صحيح البخاري (1/ 51) (200).قال ابن حجر الهيتمي: (وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ مَاءِ الْكَوْثَرِ) وقال شراحه: (قَوْلُهُ: وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ مَاءِ الْكَوْثَرِ) أَيْ فَيَكُونُ أَفْضَلُ الْمِيَاهِ؛ لِأَنَّهُ بِهِ غُسِلَ صَدْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَكُونُ يُغْسَلُ إلَّا بِأَفْضَلِ الْمِيَاهِ لَكِنْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَفْضَلَ الْمِيَاهِ مَا نَبَعَ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. تحفة المحتاج:(1/ 77) ...وقالوا: وَيَدْخُلُ فِي التَّعْرِيفِ مَا نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ: الْمَطَرُ، وَذَوْبُ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَمَا نَبَعَ مِنْ الْأَرْضِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ: مَاءُ الْعُيُونِ، وَالْآبَارِ، وَالْأَنْهَارِ، وَالْبِحَارِ، وَمَا نَبَعَ مِنْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مغني المحتاج : (1/ 116)...وقَالَ الْبُلْقِينِيُّ: مَاءُ زَمْزَمَ أَفْضَلُ مِنْ الْكَوْثَرِ: أَيْ فَيَكُونُ أَفْضَلَ الْمِيَاهِ؛ لِأَنَّ بِهِ غُسِلَ صَدْرُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَكُونُ يُغْسَلُ صَدْرَهُ إلَّا بِأَفْضَلِ الْمِيَاهِ، لَكِنْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَفْضَلَ الْمِيَاهِ مَا نَبَعَ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مغني المحتاج : (1/ 120)...وقالوا: مَا نَبَعَ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَهُوَ أَفْضَلُ الْمِيَاهِ، ثُمَّ مَاءُ زَمْزَمَ، ثُمَّ الْكَوْثَرُ، ثُمَّ نِيلُ مِصْرَ، ثُمَّ بَاقِي الْأَنْهَارِ عَلَى مَا صَحَّحَهُ السُّبْكِيُّ بِقَوْلِهِ نَظْمًا: وَأَفْضَلُ الْمِيَاهِ مَاءٌ قَدْ نَبَعْ ... مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ النَّبِيِّ الْمُتَّبَعْ...يَلِيهِ مَاءُ زَمْزَمَ فَالْكَوْثَرْ ... فَنِيلُ مِصْرَ ثُمَّ بَاقِي الْأَنْهُرْ . قليوبي وعميرة (1/ 20)   
وقالوا: (قوله: أفضل المياه) أي ما عدا الماء الذي نبع من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم، أما هو، فهو أفضل من ماء زمزم...والحاصل أفضل المياه على الإطلاق: ما نبع من بين أصابعه الشريفة، ثم ماء زمزم، ثم ماء الكوثر، ثم نيل مصر، ثم باقي الأنهر كسيحون، وجيحون، ودجلة، والفرات. إعانة الطالبين: (2/ 358).
 
ربيع الأنوار(13)
مضى على لسان المدعين والمختلفين في مسألة ما؛ قولهم: (الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَر) وهو جزء من حديث نطق به المصطفى صلى الله عليه وسلم لتأسيس مبدأ إثبات الحق ونفيه عند الادعاء والاختلاف والتخاصم. سنن  الدارقطني  : (3  : 110) ،  والسنن  الكبرى  للبيهقي :  (8  : 123).   
وعلى  هذا  أقول:  الألوهية  مع  عظمتها  للمعاندين  دعوى  بيّنتها  رسول  الله صلى الله عليه وسلم  وهذا  من  عظيم  قدره  عند  ربه  ان  جعله  الله  بينته ،  قال  تعالى  في  محكم  التنزيل: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } [البينة: 1 - 4]...والبَيِّنَةُ : هي   الدَلالَة ، أو الحجة  الواضِحَة  عَقْليَّة  كانَتْ  أَو  مَحْسوسَة  وسُمِّيَت  شَهادَةُ  الشاهِدَيْن  بَيِّنَة ، والجَمْعُ  بَيِّناتٌ ،وهي ما  لا  ينازعه  منازع  لوضوحه. المفردات في غريب القرآن: (1: 68)، والتعاريف: (1: 154).
والبينة هي: سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهذا ما ذهب اليه جمهور المفسرين من القدامى والمحدثين.   
قال أبو السعود: عُبر عنه عليه الصلاة والسلام بالبينة؛ للإيذان بغاية ظهور أمره وكونه ذلك الموعود في الكتابين. تفسير أبي السعود: (9: 184).   
قال الالوسي: وتنوينه للتفخيم، والمراد به نبينا صلى الله عليه وسلم، وقوله سبحانه من الله في موضع الصفة له مفيد للفخامة الإضافية فهو مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية...وقال: إعرابه: بدل من البينة، أو خبر ابتداء مضمر، والبينة: صفة اسم الفاعل؛ أي: المبين للحق، أو هي بمعناها المعروف وهو الحجة المثبتة للمدعي ويراد بها المعجز، وعلى الوجهين فقوله تعالى: {رسول من الله}؛ رسولٌ: بدل منها، بدل كل من كل، أو خبر لمقدر؛ أي: رسول. روح المعاني: (30: 201-202) ...قال ابو حيان: وجمع تعظيماً له-يتلوا-؛ لأنه وإن كان واحداً بالشخص فهو كثير بالمعنى. تفسير البحر المحيط: (2: 132). 
 
ربيع الأنوار(14)
وصف الله نبيه صلى الله عليه وسلم في القرآن بالبرهان، والبرهان هو: الحجة الفاصلة البينة، يقال: برهن يبرهن برهنة إذا جاء بحجة قاطعة للدد الخصم فهو مبرهن. لسان  العرب  : (13  : 51)، فالبرهان هو الحجة والدليل القاطع الذي لا مراء فيه ؛ وهو الضوء الساطع من الشمس إلى القمر؛ فلذلك قال صلى الله عليه وسلم (الصدقة برهان)، أي: من أراد ان يبرهن على صدق ايمانه فليتصدق، وعليه فبرهان أعلى في الحجة من البينة، واذا تقرر ذلك فأقول: الألوهية  دعوى مشرفة دليلها  وحجتها  الواضحة  هي  سيدنا  محمد r ، من  أجل  ذلك  سماه  برهانا : قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 174، 175]، وهذه الآية  جمعت  الأنوار  كلها  ولله المثل  الأعلى ولرسوله المقام الشريف فالآية ذكرت لفظ الجلالة ونعتت النبي صلى الله عليه وسلم بالبرهان، والقرآن: بالنور ...فإذا  أردت  أن  تبرهن  على  صدق  الألوهية  فهو  النبي ومعه  النور  وهو:  القرآن ؛  ويستمد  نوره  من  الله. والله اعلم بالصواب ...  وما من نبي الا واعطاه الله آية وبرهانا؛ ليتم  به  الحجة  على  أمته وبرهانهم غير أنفسهم منفصل عنهم، ورسول الله  r  جعله برهانا  والبرهان  لم  ينفصل  عنه ،  فهو  برهان  بالكلية...فبرهان  عينه  قوله r : عَنْ  أَنَسِ  أَنَّ  النَّبِيَّ  قَالَ : (( أَقِيمُوا  الصُّفُوفَ  فَإِنِّي  أَرَاكُمْ  خَلْفَ  ظَهْرِي )) صحيح  البخاري  : (2  :129)،وبرهان  بصره   قول  الله  فيه {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}، وبرهان  أنفه  قوله صلى الله عليه وسلم: ((إِنِّي  أَجِدُ  نَفَسَ  الرَّحْمَنِ  مِنْ  هَهُنَا ...) المعجم  الكبير  للطبراني  : (6  : 156)، وبرهان  لسانه:  قول  الله  فيه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } ، وبرهان  بصاقه قوله: (...(أَيْنَ  عَلِيٌّ؟)  فَقِيلَ: يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، فَأَمَرَ فَدُعِيَ لَهُ فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ فَبَرَأَ مَكَانَهُ حَتَّى كَأَنَّه لَمْ يَكُنْ بِهِ شَيْءٌ) صحيح البخاري: (7: 449)، وبرهان يده قول الله فيه {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}، وبرهان أصابعه: قول أَنَس فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ -قَالَ أَنَسٌ-فَحَزَرْتُ مَنْ تَوَضَّأَ مَا بَيْنَ السَّبْعِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ. صحيح  البخاري  : (1  : 207) ، وبرهان  صدره  : عَنْ  مُطَرِّفٍ ، عَنْ  أَبِيهِ ، قَالَ : ( انْتَهَيْتُ  إِلَى  رَسُولِ  اللهِ  r  وَهُوَ  يُصَلِّي  وَلِصَدْرِهِ  أَزِيزٌ  كَأَزِيزِ  الْمِرْجَلِ ) مسند  أحمد  بن  حنبل  : (4  : 25)، وبرهان  قلبه قوله  تعالى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}، وبرهان  خلقه :قوله  تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وبرهانه  كله  قول  الله تعالى  فيه {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }،قال  النيسابوري : وبرهان  كله:(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ، اللهم،  ارزقنا  الاقتناص  من  هذا  البرهان ، والاقتباس  من  أنوار  القرآن  إنك  أنت  الرؤوف  المنان ) تفسير  النيسابوري  : (3  : 114) 
 
ربيع الأنوار (15)
وصف الله نبيه بقوله: (سِراجًا مُنيرًا) ؛ فقال:﴿ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرسَلناكَ شاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذيرًا * وَداعِيًا إِلَى اللهِ بإِذنِهِ وَسِراجًا مُنيرًا ﴾...الملاحظ في هذه الآية الكريمة التي تبين مقام رسول الله عند ربه وخالقه أنه لم يقل: (سراجا وهاجا) ولم يقل: (قمرا منيرا) وإنما قال : (وَسِراجًا مُنيرًا)؛ لان السراج هو: الشمس، والسراج يكون وهاجاً وليس منيراً ، وإنما المنير هو: القمر قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا}، وقال: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا }. وقال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا}، قال ابن رجب الحنبلي وهو يعلل ذلك:  "سمّى الله محمداً صلى الله عليه وسلم سراجاً منيراً، لأنَّ نوره للدنيا كنور الشمس وأتمُ وأعظمُ وأنفع" ...وأقول والحكمة من ذلك والله أعلم: أنّ الله تبارك وتعالى أراد ان يجمع له صلوات ربي وسلامه عليه بين مصدرية الشمس ونورية القمر فقال: (سراجا منيرا)؛ لان الشمس ينبثق منها حرارة وضياء ومخلفات وهذه لا تتناسب مع وصفه الشريف فأراد الله نزع الاحتراق والمخلفات والحرارة من وصفه وهذه تكمن بكلمة(وهاجا)، واراد أثبات النورية للنبي كالقمر ؛ ولكن عيب القمر أنه ليس مصدراً للنور وانما هو عاكس لضوء الشمس قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ...}، فأراد الله جمع المصدرية له كالشمس والنورية كالقمر فقال تبارك وتعالى: (سراجا منيرا...)...والأدلة على ذلك كثيرة في القران وان شئت فاقرأ وصف المنافقين بقوله عز وجل: (ذهب الله بنورهم...) ولم يقل: بنارهم.  فاراد الله سلب الشي النافع منهم وهو: النور ولا سيما في الظلمة وابقاء الاحتراق والحرارة ومخلفاتها على رؤوسهم العفنة...ووعى الأصحاب وصف النورية جيداً فهذه أم سلمة تقرر ذلك في وصفه فتقول: (وَكَانَ إِذَا اسْتَبْشَرَ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةٌ مِنَ القَمَرِ، ...} صحيح البخاري (6/ 70) ، وعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ إِضْحِيَانٍ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَإِلَى الْقَمَرِ فَلَهُوَ أَحْسَنُ فِي عَيْنِي مِنَ الْقَمَرِ» سنن الترمذي(5/ 118) ، حتى قال رجل وهو يصف وجه المصطفى عند جابر فقال ... وَجْهُهُ مِثْلُ السَّيْفِ؟ قَالَ: لَا، بَلْ كَانَ مِثْلَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَكَانَ مُسْتَدِيرًا ... " صحيح مسلم (4/ 1823)، قال ابن حجر: كأن السائل أراد أنه مثل السيف في الطول أو في اللمعان والصقال، فرد الصحابي، فقال: "بل مثل القمر" أي: في التدوير، فقال: بل هو فوق ذلك، وعدل إلى القمر لجمعه الصفتين من التدوير واللمعان...ورحم الله من قال وهو يجسد حديث جابر فقال: 
رأيتُ الهلالَ ووجهَ الحبيب*فكانا هلالَينِ عند النَّظرْ  
فلم أدرِ من حيرتي فيهما*هلالَ الدجى مِن هلال البشرْ  
ولولا التورُّدُ في الوجنتين*وما راعني من سواد الشَّعَرْ  
لكُنتُ أظنُ الهلالَ الحبيب*وكنتُ أظنُ الحبيبَ القمرْ.
 
ربيع الأنوار(16)
  ما وردت النعمة في القرآن  الا ونسبت لله إلا في موضع واحد؛ فالله هو: المنعم الحق؛ قال الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ  ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}، والنعمة سواء كانت ظاهرة او خفية فالمنعم هو الله قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ  بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ }ومهما أوتينا من قوة فلن نستطيع ان نحصي نعم الله علينا لأن احصائها بحد ذاته نعمة قال الله تعال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ  لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }...من أجل ذلك أمرنا ربنا ان نتذكر هذه المنة دائما في الحرب والسلم في الرخاء والشدة في السر والعلانية وبكل ذلك وردت النصوص ...ولا يخفى على ذي لبٍ أنّ النعمة والحمد لا ينصرفان الا لله بخلاف الشكر فانه ينصرف لله ولغيره قال الله تعالى: { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}، ويتجلى ذلك واضحا في عبادة الحج وشعارها التلبية ففي حديث عَبْدِ اللهِ  بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا  : " أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللهِ   : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ " صحيح البخاري (2 / 138)...فاذا فهمنا ذلك وأصلناه في نفوسنا وتأملنا آيات القرآن جيدا نجد أن الله تبارك وتعالى نسب النعمة لنبيه وحبيه محمد صلى الله عليه وسلم في موضع واحد من الكتاب العزيز؛ قال الله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ... }، قال أبو نعيم الأصبهاني وفي قوله : {أَنْعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} ، قَرَنَ اسْمَهُ بِاسْمِهِ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَالْأَحْوَالِ؛ تَعْظِيمًا لَهُ، وَتَشْرِيفًا له صلى الله عليه وسلم. دلائل النبوة (1 / 48) ... فالمنعم الحقيقي هو الله ونسب النعمة إليه صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع النادر من كتاب الله إيذان بعلّو مكانته صلى الله عليه وسلم عند الله جل جلاله؛ والمُنعم عليه في هذا الموضع؛ هو: سيدنا زيد رضى الله عنه طفل تبناه النبي واغدق عليه من النعم فنسب إليه فكان الناس يقولون زيد ابن محمد على عادة العرب في التبني...ومن لطائف الإشارات في هذا الباب أن الصحابي الوحيد الذي ذكر اسمه في القرآن هو: زيد؛ والحكمة من هذا: أنه سلب منه شرف نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول حكم نفي التبني لقوله تعالى {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ الله...} فما كان أن يعوض هذا الشرف إلا بذكر اسمه في القرآن ليكون قرآناً يتلى إلى قيام الساعة والله اعلم بالصواب.
 
ربيع الأنوار (17)
لو استقرأنا الكتاب والسنة للوقوف على أصناف البخل فيهما ... سنجدهما أربعة أصناف لا خامس لهما: صنفان ماديان، وصنفان معنويان، أما الماديان: فبخيل المال، والماء، والمعنويان: يبخل بأنفاسه بخيل السلام، وبخيل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر عنده، أما الماديان: فجاءا بصيغة بخيل، وأما المعنويان: فجاءا بصيغة أبخل، والثاني صيغة مبالغة للدلالة على شدة البخل ...1-بخيل المال: المال عصب الحياة النابض، اختبر الله به بني أدم، فمن أدى حقه. نال من الله البشارة، ومن منع حق الله فيه...  كان عليه خسارة ... قال بعضهم: مسكين البخيل؛ يجمع عذابه بيديه ويحرم نفسه منه في الدنيا، قال تعالى {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}. 2-بخيل  الماء :الماء  سر  الحياة  واصلها قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ...}؛ من  أجل  ذاك  كان  الماء  ملكا  عاما  يشترك  فيه  كل؛ فمن  بخل  به  عوقب  اشد  عقاب  يوم  القيامة ؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة  لا  يكلمهم  الله  يوم  القيامة  ولا  يزكيهم  ولهم  عذاب  أليم: رجل  بخل  فضل  ماء  بالطريق  يمنع  ابن  السبيل  منه ، ...) سنن  النسائي  الكبرى  : (3  : 492)...3-بخيل  السلام  : السلام:  اسم  من  اسماء  الله  الحسنى ، وحظ  العبد  منه  ان  يتجلى  على  تصرفاته  القولية  والفعلية، ومن  القولية : المبادرة  بالسلام ، وهي  سنة  من  سنن  رسول  الله   ، ورده  فرض  لازم ، والمبادرة  بالسلام  من  السنن  التي  قرر  العلماء  انها  اعظم  أجر  من  فرضها؛  لقوله صلى الله عليه وسلم: (وَخَيْرُهُمَا  الَّذِي  يَبْدَأُ  بِالسَّلَامِ )...من  أجل  هذا  كان  البيان  الاول  عند  دخول  رسول  الله المدينة : افشاء السلام في الحديث المشهور .. وقال صلى الله عليه وسلم:  ( إن  أعجز  الناس  من  عجز  في  الدعاء  ، وإن  أبخل  الناس  من  بخل  بالسلام ) الأدب  المفرد  : (1  : 359)، وقال: ( إن  أبخل  الناس  من  بخل  بالسلام ، والمغبون  من  لم  يرده ) وشعب  الإيمان  : (6  : 429)...4- بخيل  بالصلاة  على  رسول  الله صلى الله عليه وسلم إذا  ذُكر  عنده : رسول  الله   هادي  البشرية  لربها ، ومخرجها  من  الظلمات  الى  النور ، من  كان  سببا  لرفعتهم  على  الامم  باجمعها ، وهو  من  يشفع  لهم  يوم  القيامة ، ولا  يرتضي  ان  يدخل  احد  من  أمته  النار ، شرفهم  الله  ان  يكون  نبيهم  وأمامهم  ورفعتهم  في  الدنيا  والاخرة ، وجههم  ربهم  أنه  اذا  ذكر  اسمه  الشريف  في  حضرة  احدهم  ان  يبادر  بالصلاة  عليه  ويشرف  نفسه  بذلك  ويرفعوا  من  مقامهم  عند  ربهم  بالصلاة  على  نبيهم ، فمن  ذكر  اسم  الحبيب  قُبالته  فامتنع  واحجب  عن  الصلاة  عليه  كان  من  أبخل  الناس  بصيغة  المبالغة  ( أبخل ) ، فعن  أبي  ذر  رضي  الله  عنه  قال : خرجت  ذات  يوم  فأتيت  رسول  الله  قال: (( ألا  أخبركم  بابخل  الناس))  قالوا:  بلى  يا  رسول  الله ؛ قال  من  ذكرت  عنده .. فلم يصل علي؛ فذلك أبخل الناس) الترغيب والترهيب: (2: 332) ...قال القاري: فمن لم يصل عليه. فقد بخل ومنع نفسه من أن يكتال بالمكيال الأوفى، فلا يكون أحد أبخل منه كما تدل عليه رواية (البخيل كل البخيل). مرقاة المفاتيح (2/ 749).   
 
ربيع الأنوار (18).
من تقريرات العلماء في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم قولهم: فضائلُ النبي صلى الله عليه وسلم لا تنسخ ولا تخصص ولا تبدل ولا يجوز فيها النقصان ولم تَزَلْ تَزْدَادُ إِلَى أن قبضه الله وجائز فيها الزيادة؛ قال ابن عبد البر رحمه الله: (...وَتِلْكَ فَضِيلَةٌ خُصَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَجُوزُ عَلَى فَضَائِلِهِ النَّسْخُ وَلَا الْخُصُوصُ وَلَا الِاسْتِثْنَاءُ وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي غَيْرِ فَضَائِلِهِ إِذَا كَانَتْ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا أَوْ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ). التمهيد: (1/168).
وصرح بذلك في موضع آخر فقال:( فَفَضَائِلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَزَلْ تَزْدَادُ إِلَى أن قبضه الله فمن هاهنا قُلْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا النَّسْخُ وَلَا الِاسْتِثْنَاءُ وَلَا النُّقْصَانُ وَجَائِزٌ فِيهَا الزِّيَادَةُ وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَطَهُورًا أَجَزْنَا الصَّلَاةَ فِي الْمَقْبَرَةِ وَفِي الْحَمَّامِ وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنَ الْأَرْضِ إِذَا كَانَ طَاهِرًا مِنَ الْأَنْجَاسِ لِأَنَّهُ عُمُومَ فَضِيلَةٍ لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا الْخُصُوصُ). التمهيد: (5/ 220). قلت: وهو بحث لطيف لو تفرغ المعي فيجمع فروعه من كتب الفقه لوجد العجب العجاب.
 
ربيع الأنوار (19).
حكم تكليفي وحيد أمرنا بأدائه فلم نقدر عليه ولم نفهم معناه فأوكلناه إلى الله مرة أخرى ليؤديه عنا ألا وهو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم...فمن المعلوم من الدين بالضرورة ان الله لا يكلف إلا بالمستطاع، قال تعالى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، حتى قيل: إذا أردت أن تطاع فأمر  بالمستطاع ، وهذه  قاعدة  عامة  في  الأحكام  جميعها ،  ومن  العبث  الذي  لا  يجوز  بحق  الخالق  أن  يكلف  عباده  بأمر  لا  يقدرون  عليه  والله  أرحم  بعباده  من  ذلك  جل  جلاله ، فأنت  لا  تجد  عبدا  يكلفه  الله  بعبادة  الحج  مثلا  فيقول  بلسان  فصيح  يؤجر  عليه:  يا رب؛  حج  عني،  أو  قم  عني  بعبادة  الحج،  وكذلك  من  خوطب  بعبادة  الزكاة  فيقول:  يا رب؛  زكِ  عني،  ومن  يفعل  ذلك  فهو  مجنون  محض  يسقط  عنه  التكليف،  أو  هو  منكر  جاحد  فيستحق  العقاب  والعتاب  والتوبيخ  فضلا  عن  التعزير...ومع  ذلك  كله  كلفنا  الله  بعبادة  شرفنا  وأعلى  مكانتنا  بها  بين  الأمم،  ألا  وهي  عبادة  الصلاة  والسلام  على  الحبيب  الشفيع... ولو  أنمعنا  النظر  بهذا  الخطاب  الرباني  لوجدناه  خطابا  فريدا  لا  يشبهه  شيء  من  الاحكام  والتشريع  والتكليف،  فالله  أمرنا  بالصلاة  والسلام،  على  نبيه  وصفيه وجاء  ذلك  بصيغة  الأمر  المحض  ولم  يقترن  بقرينة  تصرف  ذلك  الأمر  إلى  غيره،  كما  هو  معلوم  لدى  طلبة  العلم  وأهله،  فهو  حكم  تكليف  يفيد  الوجوب ، فقد  جاء  باللفظ  الصحيح  الصريح  القطعي  الدلالة  والثبوت،  وسبقه  بقوله  جل  وعلا  وهو  يخاطب  المجتمع  المؤمن  بقوله: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ...وعلّمَ النبي الأعظم  صلوات  ربي  وسلامه الاصحاب كيفية الصلاة عليه عندما سئل عن ذلك فقال: ( قُولُوا:  اللَّهُمَّ؛  صَلِّ  عَلَى  مُحَمَّدٍ  ... ) صحيح  البخاري  : (8  : 441)؛ فعلّمهم وعلمنا من بعدهم  ان  نرجع  الأمر  اليه  مرة  أخرى  فنقول : ( اللَّهُمَّ  صَلِّ )... من  يقوم  بالصلاة  ؟  نحن!  من كُلفنا بذلك؟ أم نقول: اللهم؛ أنت صلِ على سيدنا محمد، من نحن لكي نصلي على رسول الله فنرفع من قدره ومنزلته عند الله؟  لا  والله  لا  ينبغي  هذا  لمسلم  عاقل،  وإنما  نتأدب  بأدب  رسول  الله  ونوكل  الأمر  إلى  الله  فنطلب  من الله  أن  يصلي  على  نبيه  فيرفع  قدره  ومكانته  عنده؛ لأنه خالقه وهو أعلم به وقدره ومقداره فهو من يصلي عليه لا نحن فنصيبنا التشرف بامتثال الأمر وإعادته الى الله مرة أخرى ليقوم به عنا ...قال السخاوي:  (قرأت في شرح مقدمة أبي الليث للأمير المصطفى التركماني من الحنفية ما نصة، فإن قيل: ما الحكمة في أن الله تعالى أمرنا أن نصلي ونحن نقول اللهم صل على محمد وعلى آل محمد فنسأل الله تعالى أن يصلي عليه ولا نصلي عليه نحن بأنفسنا يعني بأن يقول العبد في الصلاة أصلى على محمد قلنا لأنه صلى الله عليه وسلم طاهر لا عيب فيه ونحن فينا المعائب والنقائص فكيف يثنى من فيه معائب على طاهر؟ فنسأل الله تعالى أن يصلي عليه لتكون الصلاة عن رب طاهر على نبي طاهر كذا في المرغيناني ...ونحو ذلك منقول عن النيسابوري في كتابه اللطائف والحكم فإنه قال لا يكفي للعبد أن يقول في الصلاة صليت على محمد لأن مرتبة العبد تقصر عن ذلك بل يسأل ربه أن يصلي عليه لتكون الصلاة على لسان غيره وحينئذ فالمصلي في الحقيقة هو الله ونسبة الصلاة إلى العبد مجازية بمعنى السؤال ...وقد أشار ابن أبي حجلة إلى شيء عن ذلك فقال الحكمة في تعليمه الأمة صيغة اللهم صل على محمد أنا لما أمرنا بالصلاة عليه ولم يبلغ قدر الواجب من ذلك أحلناه عليه لأنه أعلم بما يليق به...).القول البديع (72-73) .
وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ على سيّدنا مُحمّد وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين.
كتبه الشيخ فهمي القزاز.