یه‌کێتی زانایانی ئاینی ئیسلامی کوردستان
كوردى | العربية ئێمە لە فەیسبوک په‌یوه‌ندی  |  لقه‌کان  |  ستافی کار  |  لینکی پێویست
*****    *****   سەرۆکی یەکێتی زانایان: هەڕەشەو بێڕێزیکردن بەرامبەر مامۆستایانی ئایینی قابیلی قبوڵ نیە    *****    *****   لقی سۆرانی یەکێتی زانایان کۆدەبێتەوە چەند پرسێک گەنگەشە دەکات    *****    *****   لقی رانیەی یەکێتی زانایان کۆبوونەوەی ئاسایی خۆی ئەنجام دەدات و چەند پرسێک تاوتوێ دەکات    *****    *****   کونسوڵی گشتی فەرەنسا لەهەرێمی کوردستان سەردانی مەکتەبی تەنفیزی یەکێتی زانایان دەکات    *****    *****   دكتۆر شێخ تەها ئەحمەد ئەلزەیدی  ئەندامی كۆڕبەندی فیقهی عێراق: زانایانی كورد پێشەنگ بوون لە گۆڕەپانی زانستی و فەتوادان؛ به نووسین و پۆلێنبەندییەكانیان كتێبخانەی ئیسلامی و مرۆڤدۆستییان دەوڵەمەند كردووە    *****    *****   دكتۆر شێخ تەها ئەحمەد ئەلزەیدی ئەندامی كۆڕبەندی فیقهی عێراق: زانایانی كورد پێشەنگ بوون لە گۆڕەپانی زانستی و فەتوادان؛ به نووسین و پۆلێنبەندییەكانیان كتێبخانەی ئیسلامی و مرۆڤدۆستییان دەوڵەمەند كردووە    *****    *****   ئەنجومەنی باڵای فەتوا: ڕێژه‌ی زه‌كات و سه‌رفیتره‌و فیدیه‌ی ساڵی 1445هـ = 2024م دیاری دەکات    *****    *****   یەکێتی زانایانی ئایینی ئیسلامی کوردستان بەبۆنەی هاتنەوەی مانگی پیرۆزی رەمەزان پەیامێکی پیرۆزبایی بڵاودەکاتەوە    *****    *****   مامۆستا مەلا ياسين چیوەیی کۆچی دوایی کرد یەکێتی زانایان پرسەنامەیەک ئاراستەی خانەوادەکەی دەکات    *****    *****   لقی شقلاوەی یەکێتی زانایان پێشوازی لە شاندێکی وەزارەتی ئەوقاف و میوانان دەکات    *****    *****   لقی شێخانی یەکێتی زانایان لەگەڵ لێژنەی فەتوا کۆبوونەوەیەکی پەیوەست بە مانگی رەمەزان ساز دەکات    *****    *****   لقی هەڵەبجەی یەکێتی زانایان لەپێشوازی مانگی پیرۆزی ڕەمەزاندا مەراسیمێک ساز دەکات   
أ. د. طه جابر العلواني
به‌رواری دابه‌زاندن: 17/03/2015 : 11:50:08
قه‌باره‌ی فۆنت
القرامطة الجدد داعش وأخواتها

القرامطة الجدد داعش وأخواتها

أ.د/ طه جابر العلواني

 

(1)

القرامطة الجدد وتعيين أميرين لمكة والمدينة

أعلنت داعش أنَّها قد عينت أميرًا لمكة وآخر للمدينة من رجالها، وقد ذكَّرني ذلك بالقرامطة ودولتهم، وذهابهم إلى مكة، وسرقتهم للحجر الأسود الذي لم يستطع المسلمون أن يستعيدوه منهم إلا بعد اثنين وعشرين عامًا.

يتعامل الناس مع داعش اليوم على أنَّها حركة حديثة نشأت في ظل ظروف التمزق في كل من العراق وسوريا، التي قد تكون نبهت أذهاب بعض الشباب إلى أنَّ في مقدورهم في ظل التمزق السائد والمنتظر أن ينفسوا عن رغباتهم ويتجاوزوا حالات الاحتقان السائدة في المنطقة منذ قيام دولة إسرائيل فيها، وخوض الحروب معهًا في كل عشر سنوات أو ثمان، ولم أجد من التفت إلى أنَّ ظاهرة داعش لها جذور تاريخيَّة وسوابق في ذات المناطق التي تأسست فيها داعش المعاصرة، مع أنَّ الارتباط بين تلك الجذور والداعشيَّة المعاصرة ارتباط لا يخفى على باحث متأمل.

أذكر أنَّني قرأت منذ ما يزيد عن خمسين عامًا رواية علي أحمد باكثير (الثائر الأحمر)، ولم يكن الثائر الأحمر سوى حمدان قرمط أحد مؤسسي الحركة القرمطيَّة في جنوب العراق، والبحرين، وسلمية في الشام، وما إليها. وحين قامت داعش المعاصرة أخذت تستدعي في ذاكرتي تلك الرواية، وكثيرًا مما قرأته في الملل والنحل، وتاريخ الفرق عن القرامطة، ووجدت شبهًا عجيًبا بين تصرفات القرامطة الماضين وداعش والقرامطة الجدد، وحين ذبحوا سبعمائة شابًا في الرقة والمناطق المحيطة بها بعد أن عاهدوا على المحافظة على حياتهم، وتكرر ذلك مع قبائل عربيَّة سنيَّة أخرى؛ تأكَّد لدي أنَّ هؤلاء الذين توهم البعض عن جهل وقلة دراية بتاريخ المنطقة أنَّهم من السنَّة والعرب فكانوا يستغربون كيف يقتلون ما يقرب من أربعمائة إمام من أئمة مساجد السنة في العراق، ويحرقون مساجد، ويختارون من القبائل العربيَّة الباقية في الأنبار ومدنها خيرة شباب تلك القبائل، يقتلوهم ذبحًا بالسكاكين لكيلا تقوم لتلك القبائل قائمة وهم يرون أمامهم بلدًا ممزقًا، لا حكومة فيه ولا جيش، وقد صار نهبًا لقادة الملشيات والعصابات والتجمعات المختلفة، تأكَّد لدي أنَّنا أمام قرامطة جدد، أضافوا إلى خبرة القرامطة الماضين الكثير من تراث الشيوعيَّة الحمراء، خاصَّة في عهد ستلين.

إنَّ منطقة انتشارهم والتكوين العقلي والنفسي لديهم تكوين قرمطي، فالقرامطة لم يعلنوا عن أنفسهم أنَّهم شيوعيون أو اشتراكيون كما ذكر علي أحمد باكثير حين عنون رسالته بالثائر الأحمر، وإنَّما كانوا يتبنون أقوالًا متطرفة من أحزاب المعارضة الخفية منها والظاهرة التي كانت في تاريخنا تنتمي أو تدعي الانتماء صدقًا أو كذبًا لشيعة آل البيت، وما كانوا شيعة ولا سنة بل كانوا قرامطة فقط، حقدوا على الإسلام والمسلمين، يبغضون كل ما يمت للإسلام بصلة، قتل الناس عندهم أهون من قتل القوارض، لا يفرقون في القتل بين دين وآخر، ولا مذهب ومذهب، ولا تأخذهم رأفة بأحد؛ ولذلك فقد أعطوا لأنفسهم الحق فيما مضى أن يغزوا مكة ويرتكبوا من الجرائم الفظيعة في الحرم ما لا يستطع أن يرتكبه إبليس نفسه، فقتلوا الحجيج، والكثير من أهل مكة، وسبوا نساءهم وذراريهم، واغتصبوا أموالهم، وأرادوا نقض الكعبة، واستطاعوا أن يأخذوا الحجر الأسود منها ويسرقوه وينقلونه لإحدى القرى التي يسيطرون عليها في البحرين، وذلك في عام (317ﻫ). ولم يعيدوه إلا بعد اثنين وعشرين عامًا، عام (339ﻫ) حين بعث الحاكم بأمر الله الفاطمي للقرامطة برسالة. بعد أن انتزع القرامطة الحجر الأسود من الكعبة. وأرسل الخليفة الفاطمي المهدي العلوي رسالة تهديد إلى أبو طاهر القرمطى يأمره برد الحجر الأسود إلى الكعبة، وكتب عبيد الله المهدي في رسالته إلى أبو طاهر القرمطي يحذره أنَّه إن لم يَرُد أموال أهل مكّة التي سرقها وإرجاع الحجر الأسود إلى مكانه ووضع ستار الكعبة عليها مجدّدًا فإنَّه سيأتيه بجيش لا قِبَلَ له به. وأذعن القرامطة للتهديد، وأعادوا موسم الحج، بعد تعطيله لمدة تقارب الاثنين وعشرين سنة، وأعادوا الحجر الأسود.

إنَّ داعش اليوم تشبه في تكوينها ونشأتها والعنف الذي تتبناه الحركة القرمطية، وحين نبحث عن الجذور التي أدت إلى قيام حركة القرامطة القديمة يمكن أن نتخذ منها مؤشرات للظروف التي عاشت بها تلك الأقاليم سوريا والعراق ومصر والبحرين والحجاز لتمتد تلك الحركة البائسة الشريرة في تلك الفراغات، وتستولي على ما استولت عليه من أراض، وتسفك الدماء الحرام في الحل وفي الحرم، وتستبيح من المسلمين مثل ما كان يستبيحه أعداءهم منهم من تتار وصليبيين وأمثالهم.

 وفكر القرامطة كان يقوم على جانبين جانب خيالي قد يستعين قادة القرامطة لإنمائه واثرائه بالمخدرات، من حشيش وسواه، وجانب آخر يرسمونه هم في أذهاب أتباعهم ليكونوا جنودًا مطيعين، لا يعصونهم في أوامرهم، وهذا الفكر لا تعرفه سائر المذاهب الإسلاميَّة ولا الأديان، ولا الشرائع، حتى حينما يقتنص شياطينهم بعض الأقوال من هنا أو من هناك؛ ولذلك فإنَّ من يريد مكافحتهم بجد وهزيمتهم لابد له من وضع استراتيجية طويلة المدى تستلهم التاريخ وتأخذ منه الدروس والعبر، وتسد المنافذ وتجفف المنابع، التي وجدت في التاريخ وسمحت بقيام هذه الحركة، وانتشارها في تلك المرحلة التاريخيَّة، والنظر في واقع العرب والمسلمين اليوم لمعرفة الثغرات التي استغلها الشياطين المؤسسون لداعش والقائمون عليها، وكيف سخروا أولئك الشباب وحولوهم إلى وحوش كاسرة في أشكال بشر، قد انسلخوا من الانتساب إلى البشر منذ البداية.

أمَّا الربط بين الإرهاب المعاصر وبين تلك الحقبة التاريخيَّة فينبغي أن يكون دقيقًا جدًا، لكي لا يدخل الساعون للقضاء على هذه الفتنة وإنهاء وجود هذا التيار في متاهات أخرى، فنحن أمام فئة شيطانيَّة ماكرة استفادت من تجارب تاريخيَّة وتجارب معاصرة، فلا يستهان بها ولا يجري تجاوزها والانشغال بسواها ولا تتخذ اجراءات قد توسع قواعدها، وتمنحها روافد قد تعزز من قوتها، بل لابد من العمل على حصرها في دوائر جغرافيَّة محددة ثم التعامل معها في تلك الدوائر، لكي يقضى عليها وعلى منابعها مرة واحدة، فلا يسمح أن تقوم لها قائمة، أو تخلف من ورائها تنظيمًا يحمل مثل أمراضها وعنفها، والشر المتفشي في عقول وقلوب أبنائها. 

والله من وراء القصد.

 

(2)

القرامطة الجدد: داعش وأخواتها

هناك حكمة قالها أبو الطيب المتنبي:

ومن يجعل الضرغام بازًا لصيده *** تصيده الضرغام فيما تصيد

ألف هواة الصيد بالحيوان أن يصطادوا بالطيور الكاسرة وبالكلاب المعلمة، فيصطاد النسر والصقر والعقاب والكلاب المدربة لأصحابهم، ومن أجل أصحابهم، ولم يعرف أحد اتخذ من الأسد أو النمر بديلًا عن كلاب الصيد؛ لأنَّ الأسد أو النمر إنَّما يهاجمان ويصطادان لأنفسهما ولصغارهما، فلو فرض أنَّ أحدًا اتخذ من الأسد أو فصيلة النمور بديلًا عن حيوانات الصيد لعد سفيهًا متهورًا لا يبالي بالخطر، لكن ذلك الفعل المستهجن قد سقطت فيه الولايات المتحدة، وأسقطت فيه بعض أصدقائها في منطقتنا، فجراح ﭬـيتنام التي أثرت في الجسم الأمريكي والذاكرة الأمريكيَّة وجعلت من أمريكا في مرحلة الستينيات من القرن الماضي مثل الذئب الجريح؛ دفعتها لأن تأثر لنفسها وتنتقم من الاتحاد السوﭬـيتي المنهار، وتقوم بتفكيكه تفكيكًا تامًا، وإعلان شهادة وفاته؛ فعمدت إلى أفغانستان، واستدرجت بواسطة الحزب الشيوعي الأفغاني روسيا إلى السقوط في المستنقع الأفغاني، وابتلعت روسيا الطعم وتورطت في أفغانستان متوهمة أنَّ الحفنة الشيوعيَّة فيها سوف تسلمها على طبق من ذهب أو فضة أقوى وأعصى وأقسى وأمنع بلد من بلدان المنطقة ألا وهي أفغانستان.

وأفغانستان لها في الذاكرة الإسرائيليَّة والأمريكيَّة موقع خاص، فحين دخل الإسرائيليون في حزيران/يونيو 1976 بقيَّة أراضي فلسطين ومنها القدس نزلت قبائل أفغانيَّة بأكملها إلى العاصمة كابول، وحاصرت الحكومة لمدة قاربت أسبوعًا للضغط عليها لفتح باب الجهاد وإرسال المجاهدين إلى القدس لتحريرها، لما لذلك البلد وشعبه من حماسة دينيَّة، وشجاعة وعنفوان، وطاقات معروفة تاريخيًّا على القتال والصبر على الأقران، وإسرائيل لا تنس أي أحد يمكن أن يشكل عليها خطرًا، لا في الحال وفي المستقبل، كما أنَّ من أخلاقها الانتقام من أعدائها الماضين حتى لو فصلتها عن ذلك التاريخ آلاف السنين، فقد حقدت على العراق أو أرض بابل، ولم تنته منه حتى مزقته بيدي ابنها البار بول ولف واتس، الذي قرر تدمير العراق وخطط له، وزور مع أعوانه مستندات كثيرة لإقناع البيت الأبيض والكونجرس والأمم المتحدة بضرورة غزو العراق، وظل مكرسًا فترة وجوده نائبًا لوزير الدفاع في الولايات المتحدة، ووجود خليلته الإيرانيَّة لهذا الهدف، حتى انتهى العراق ولا عراق بعده، وظلت الذاكرة الإسرائيليَّة تتطلع إلى يوم تجعل من مصر فيه عراقًا آخر في انهياره وتمزقه، لكن مصر شيء والعراق شيء آخر، ونسأل الله (جل شأنه) أن يخيب آمالهم في سائر جهودهم ضدها، فلا يتكرر النموذج العراقي.

نعود إلى القرامطة الجدد، بعد أن دخل الشيوعيون والروس إلى أفغانستان وصاروا داخل المصيدة قام بريجنسكي بزيارة وجولة في منطقة الشرق الأوسط، وأصر حين زار مصر أن يذهب إلى خان الخليلي وعلى أن يصور فيها، وقد أُخذت له صورة وهو يمسك بمسبحة وتحت كرسيه سجادة صلاة، وحينما يأخذ رجل مثل هذا صورة بهذا الشكل فإنَّ فيها إيحاءات جمة، ورسائل سياسيَّة كثيرة، يفهمها من يفهمها، ويجهلها من يجهلها، وقد فهمها القليلون جدًا من العرب المسلمين في المنطقة، وقلنا في حينه: "ويل للمسلمين من شر قد اقترب"، وإذا ببريجنسكي يقنع بعض دول المنطقة بأن تشترك مع أمريكا فهي تدفع دولار وأمريكا تدفع دولارًا، وحاصل ما يدفعه الفريقان يجهز فيه المجاهدون الذين يجاهدون في أفغانستان من أبنائها ومن الوافدين، وقام الشركاء العرب بالدعوة إلى الجهاد لتحرير أفغانستان من الشيوعيَّة والإلحاد، وتعالت أصوات الدعاة الذين لم يكونوا يعرفون ما وراء الأكمة بضرورة الجهاد في أفغانستان، وأنَّ أجر المجاهدين فيها لا يقل عن أجر البدريين ومجاهدي غزوة أحد أيضًا، وبدأت الطائرات تنقل أفواجًا من الشباب الذي يتطلع إلى أن يذهب إلى الجنة بأقصر الطرق، ويتخلص من حياة كئيبة في ظل عدم تكافؤ الفرص وانعدام العدل والاستبداد والفقر والجهل والمرض والسفه والتبديد والتبذير وما إلى ذلك، وبدأنا نرى في مختلف العواصم العربيَّة والإسلاميَّة طاقيَّة الوبر والصوف الأفغانيَّة المعروفة، والقميص والسروال الأفغاني يرتديها الشباب الذين يذهبون إلى أفغانستان، وقد يعودون إلى بلدانهم في أجازات وبتسهيلات من خطوط جويَّة عربيَّة، وجمعيَّات كثيرة، وتكونت القاعدة، قاعدة الجهاد كما يسمونها هناك، وجيئ بالشباب المسلم لفيفًا؛ ليوضعوا في أفغانستان متخذين من بشاور وباكستان بصفة عامَّة محطات تجمع وانطلاق إلى الداخل الأفغاني، وبرزت القاعدة وطالبان، وأسماء كثيرة لفصائل عديدة.

وصارت اسماء بن لادن والظواهري وعبد الله عزام تتردد كثيرًا بين أولئك الشباب، وانتشر اليونيفورم الأفغاني في سائر البلدان، فمن حرم الجهاد في أفغانستان فليتشبه بالمجاهدين وليرتدي تلك الطاقية والسراويل الأفغانيَّة، وقيل في حينها: إنَّ أمريكا كانت تشجع أولئك القادة الذين يجمعون الشباب ويجندونهم ويدربونهم ويزجون بهم في أتون أفغانستان لتدمير الشيوعية وعودًا سخيَّة، قيل: إنَّ ابن لادن وعد بأن يكون له شأن في السعوديَّة، وقد يكون في المستقبل جزءًا من مراكز القوى فيها، وقيل للظاهري أن يعد نفسه لخلافة حسني مبارك، وقيل لعبد الله عزام إنَّه سيعينونه على تحرير أجزاء من فلسطين، وقيل وقيل ..، واندفع الشباب وسقط الاتحاد السوﭬـيتي في أفغانستان، وتفكك في خارج أفغانستان وأعلنت شهادة وفاته، وتنفست أمريكا الصعداء، فقد أنهت على غريمها القطب الثاني من النظام القطبي الذي كان، وبقيت قطبًا منفردًا، بمثابة لوري كبير ثنائي يقوده سائق إسرائيلي ماهر في قيادة مثل هذه اللوريهات المزدوجة ويقتحم بهما ما يشاء من حصون أعدائه، وأصبح شركاء أمريكا الذين كانوا يمزجون البترودولار مع أنكل سام، ليجدوا أن بلدانهم قد ملئت بأصحاب الطواقي الأفغانيَّة المدربون على القتال وعلى الكر والفر، والمترعون بآمال الجهاد وحماس المجاهدين وتطلعات الراغبين بالحسنيين، لا بواحد منهما: حكم بلدنهم والتمكن منها، والحصول على الجنة في الآخرة.

 وهنا اكتشف أولئك الشباب وقياداتهم أنَّ مسبحة بريجنكسي وسجادته لم تكن إلا جزءًا من أسلحة الخداع التي استعملت لتجنيدهم ثم تدميرهم، ومرارة الشعور بالخديعة مرارة قاتلة، جعلتهم في حالة عداء ورغبة شديدة للانتقام من أمريكا، التي نكثت بكل وعودها لهم، وتركتهم نهبًا لأنظمة مستبدة تحرضها عليهم ليل نهار، وتمدها بالأسلحة والمعلومات؛ لكي يحاصر تلك التنظيمات ويقضوا عليها في أفغانستان وخارجها، ونشط الاستشراق الإسرائيلي، وهو استشراق خطير، لو جمعنا سائر جهود المستشرقين في القرنين الماضيين وقارنا بينه وبينها لوجدنا الاستشراق الإسرائيلي يرجح على كل جهود المستشرقين ويزيد عليها، فالاستشراق الإسرائيلي قد نبش التاريخ العربي الإسلامي نبشًا أشبه بنبش الخنزير لأكوام القمامة، بحثًا عن أسوأ ما فيه، ذلك لأنَّ حماية إسرائيل لا يمكن أن تتم إلا بتحطيم وتفكيك من حولها، هكذا قالت التوراة فيما مضى، وهكذا يرى الاستشراق الإسرائيلي اليوم.

 وسواء وقعت اتفاقات سلام أم لم توقع، أعلنت يهوديَّة الدولة أم لم تعلن؛ فإنَّ ذلك لا يمنع من أن تقوم إسرائيل بالدفاع عن نفسها بتفكيك وتمزيق وتشتيت جميع البلدان حولها، خاصَّة تلك التي لها حدود معها أو مع بلدان محاددة لها، فككت سوريا، والعراق، ولا تألو جهدًا في محاربة مصر وتمزيقها -نسأل الله أن يخيب آمالها- وأنظارها تتجه نحو السعوديَّة وبلدان الخليج، ولا مانع لديها أن تهادن إيران إلى حين؛ لتنقض عليها بعد ذلك، وأن تغض الطرف لوقت محدود عن تركيا، لكن على أن لا تقترب من الخطوط الحمراء في أوروبا بالانضمام إلى المجموعة الأوروبيَّة، ولا في المنطقة العربية لتحيي ما اعتبرته قد انتهى من توحد العرب سواء وحدهم أو في ظل العثمانين.

وإذا كان التآمر والاستشراق القديم قد ولد الاتجاه الصفوي ليطوق الدولة العثمانية التي كانت تعمل على الوصول إلى أوروبا وقد احتلت وسطها ودخلت ﭬـينا عاصمة النمسا، فإنَّ تركيا الجديدة ينبغي أن تكون دائمًا في حالة صراع مع إيران لأنَّه لو اتفقت إيران وتركيا ومصر والسعوديَّة أي نوع من أنواع الاتفاقات المتينة فذلك يعني أنَّ على إسرائيل أن تبدأ بالتهيؤ لشد الرحال إلى وطن بديل، فالدول الأربعة يمكن أن تمثل ثقلًا إقليميًّا إذا أضيفت إليها باكستان وأفغانستان فآنذاك عليها أن تشد الرحال إلى الوطن البديل الذي يجري إعداده في الغرب الإسلامي.

تلك هي الصورة التي تبرز فيها فصائل الداعشيين وتستقطب إليها بقايا القاعدة وسائر عناصر الاندفاع والتعصب والتطرف والبحث ولو بالخيال عن أقصر الطرق إلى الحسنيين السلطة ثم الجنة، وتبدأ داعش بأن تهاجم البلدان العربيَّة والمسلمة في عقر دارها، وتستولي على أراض تجرب سلطانها فيها، وتسومها سوء العذاب، وتستحيي من التراث ما مهر الاستشراق الإسرائيلي باستحيائه وتوصيله بالطرق المختلفة إلى هؤلاء.

وهذه التجمعات كلها تجمعات مخترقة، اخترقت بمثل الطريق الذي اخترق به حزب البعث في سوريا حين وصل كوهين إلى مستوى النائب الأول فأصبحت لها رئاسات وقيادات توجهها من الداخل إلى حيث تخدم الأغراض الإسرائيليَّة والأهداف الإمبرياليَّة وتعجل بهدم بقايا الكيانات العربيَّة والإسلاميَّة، وذلك تفسير ما يجري. فهل من حلول؟.

 

(3)

القرامطة الجدد: داعش وأخواتها

حاولت في الحلقتين الأولى والثانية من هذه المقالة أن أنبه إلى الجذور التاريخيَّة لحركة داعش التي وجدتها في القرامطة وفكرهم وفلسفتهم وسلوكيَّاتهم، وقد شرحت ذلك في هاتين الحلقتين بما يكفي، وحين نفهم العلاقة بين الظواهر الجديدة والقديمة نكتشف مجموعة من القضايا:

 

القضيَّة الأولى:

ادِّعاء الارتباط بالإسلام دون أن يكون لذلك في العقول والقلوب والوجدان والسلوك أي أثر لتلك العلاقة المدَّعاة في التعامل مع الإنسان، سواء أكان منهم أو من غيرهم. فهم مدَّعون لذلك الانتماء غير صادقين فيه وليسوا مخلصين له، وإلا لحجزهم هذا الانتماء -لو كان صادقًا- عن القيام بتلك الجرائم البشعة التي لا يقرها أي دليل من كتاب الله (جل وعلا) ولا من هدي رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا من هدي أصحابه وآل بيته –رضوان الله عنهم أجمعين.

قتل البريء لم يأذن به الله (سبحانه وتعالى) ولا رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يقم أي دليل أو قرينة أو أمارة على جواز ذلك بأي حال من الأحوال.

وقد تضافرت آيات الكتاب الكريم على احترام الدم الإنساني الذي لا يجوز أن يراق إلا بحقه، وذلك ينحصر بممارسة قتل الآخرين مع إصرار أولياء الدم على قتل قاتله، وكذلك الإفساد في الأرض بأشكال كثيرة، تعرض لها القرآن المجيد، وبيَّنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

 فجرأتهم على الدماء، واستهتارهم لقتل الأبرياء لمجرد لفت النظر وإثارة الاهتمام العالمي بهم أمر لا يقره ولا يبيحه دليل ولا قرينة ولا أمارة ولا أثارة من علم، وكذلك القتل بحجة ارتكاب الكبائر أو عدم الصلاة.

 

القضيَّة الثانية:

أنَّهم اعتبروا قائدهم أيًا كان خليفة حق على الناس كافَّة أن يبايعوه ويتقبلوا إمارته وخلافته، مادام أولئك الدواعش قد ارتضوه لأنفسهم وارتضوه للآخرين كذلك، فإنَّ أقصى ما يمكن أن يقال في اختيارهم لقادتهم أنَّهم قد اجتهدوا في اختيارهم وتبنوهم ونصبوهم على تنظيماتهم، وهذا اختيار لهم لا يختلف عن أي اختيار حزبي أو عصابي أو فئوي، عندما يختار حزب ما من بينهم لأنفسهم رأسًا يسمونه ما شاؤوا، ولا يلزم اختيارهم أي أحد سواهم، وهم في ذلك مذنبون؛ لأنَّهم يفتاتون بذلك على الأمَّة وسائر المنتمين إليها، والإفتئات أمر لا يقبل ولا يبيحه الدين ولا الشرع بل هو جريمة يعاقب عليها المفتات المستبد.

 

وهؤلاء ينطبق عليهم قول الكميت الأسدي:

يرون لهم حقًا على الناس واجبًا *** سفاهًا وحق الهاشميين أوجب.

ولذلك وبناء على افتئاتهم ذاك وخيالهم أباحوا لأنفسهم أن يعتبروا لأنفسهم وحدهم الأمَّة المسلمة، وأنَّ كل من عاداهم ولم ينضم إلى تنظيمهم ولم يبايع رأسهم خارج عن الجماعة مفارق لها رافض للبيعة ولمن رشحوه، وهذا فهم عجيب. ولو عقل هؤلاء أو مفتوهم لعلموا أنَّ من الممكن أن يأتي عشرات التنظيمات المندفعة نحو الافتئات على الأمَّة، فيستبيحون منهم كل ما استباحه الداعشيون من سواهم، ويبيحون قتلهم وسبي ذراريهم، واسترقاق نسائهم وأبنائهم، وهكذا.

 

القضيَّة الثالثة:

أنَّهم يتمسكون بحديث يدَّعون صحته وفيه عند المحدثين مقال، ومجال للجدل كبير، هو حديث: "يا معشر قريش لقد جئتكم بالذبح" فهو دليل هؤلاء على الذبح بالسكاكين لمن يخالفونهم، وهذا الحديث جاء على معارضة القرآن المجيد، فالقرآن يقول في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾(الأنبياء:107)، فكيف يكون من جاء بالرحمة يأتي الناس بالذبح، كما أنَّ الله (جل شأنه) وصف رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: ﴿َقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾(التوبة:128)، فكيف يكون الرؤوف الرحيم الذي يعز عليه أن يعاني أحد من الناس العنت أو الشدة والضيق ويبلغ من حرصه على الناس أن يقول الله (جل شأنه): ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾(الكهف:6)، ويقول له: ﴿وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ﴾(النمل:81)، ويقول له: ﴿.. فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ..﴾(الكهف:29)، وينفي عنه مبدأ الصيطرة والتجبر ﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾(الغاشية:22)، ﴿.. وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ ..﴾(ق:45)، ويقول له: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾(آل عمران:159) ، وإذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد جاء قريشًا بالذبح فلما قال لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" عندما فتح مكة، ولما قبل الدخول في صلح الحديبية الذي كاد يتحول إلى فتنة بين أصحابه وأزمة داخلية كبيرة، يقول الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- بتقديم ظواهر القرآن على الحديث أيًا كان، فيقول صاحب هذا العقل النادر: "لقد علمنا أنَّ الله عز وجل إنَّما بعث رسوله رحمة، ليجمع به الفرقة، وليزيد الألفة ولم يبعثه ليفرق الكلمة، ويحرش المسلمين بعضهم على بعض".

وحين قيل له -يرحمه الله: إنَّنا نروي أحاديث صحت لدينا، ونتبعها كما سمعناها، فيرد أبو حنيفة عليهم بقوله: ويل لهم، ما أقل اهتمامهم بأمر عاقبتهم، حين ينتصبون للناس، فيحدثونهم بما قد علموا أنَّه معارض لظاهر الكتاب، وآنذاك يكون العمل به ضلالة. فيقال له: ألا تخشى أن تكون في ذلك ممن يرد السنة، أو ينفيها فأجاب -رحمه الله: إنَّني إنَّما أكذب هؤلاء ولا يكون تكذيبي لهؤلاء وردي عليهم تكذيبًا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنا مؤمن بكل ما تكلم به النبي غير أنَّ النبي لم يخالف القرآن في شيء، فهو منزه عن مخالفة القرآن؛ لأنَّه لو خالف القرآن يكون قد تقول على الله غير الحق، ولا يدعه الله في هذه الحالة حتى يأخذه باليمين ويقطع منه الوتين ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾(الحاقة:44-47)، ونبي الله لا يخالف كتاب الله (تعالى)، ومخالف كتاب الله لا يكون نبي الله، وهذا الذي رووه خلاف القرآن.

إنَّ هذا الحديث الذي يتمسك به الداعشيون فيذبحون من يقع بين أيديهم بأقل من ذبح النعاج، لم يرد إلا في موضعين، هما مسند أحمد وجامع ابن حبان، ولم يروى إلا من طريق واحد فقط، تفرد به إبراهيم بن سعد وهو مدلس معنعن لا تقبل روايته، وباقي إسناده ورجاله في كل منهم كلام.

إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أثبت طيلة حياته أنَّه ما جاء الناس بالذبح، انظر كيف يعاتبه القرآن المجيد حين فادى أسرى قريش قال له (جل شأنه): ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(الأنفال:67)، وحين كان يستغفر للمنافقين قال له (جل شأنه): ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾(التوبة:80)، فروي عنه أنَّه قال: "والله لأزيدن على السبعين"، إلى أن نهاه الله نهيًا قاطعًا عن ذلك، فأين هي النزعة الدموية لدى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنَّه رسول الرحمة، ورسالته كلها رحمة، ومثل هذه الأحاديث قد دست لنزع صفات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التي جاءت في التوراة والإنجيل عنه وإبدالها بصفات تسمح بإبقاء الباب مفتوحًا لمشايا يهودي يأتي بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) من اللاويين من بني إسرائيل، وإلى مسيح يأتي بعده أو ينزل مرة أخرى كما في عقيدة النصارى، والله (جل شأنه) قد نص على أنَّ محمد خاتم النبيين لا نبي بعده، وأنَّ ما يبقى بعده هو ذلك القرآن الذي يحمل رسالات النبيين كافَّة، فإن نحن تمسكنا به لن نضل بعده أبدا.

إنَّه لا يليق بمسلم أن يقبل حديثًا يخالف كتاب الله، ويحتاج الجميع أن يؤمنوا بأنَّ كل ما صح من سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يستحيل أن تخالف كتاب الله فما جاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالذبح، بل جاء بالهدى ودين الحق، جاء الناس ليتلوا عليهم الكتاب ويعلمهم إياه ويزكيهم به، لا ليقتلهم ولا ليذبحهم ولا ليستبيح أبشارهم وأعراضهم ونساءهم وأموالهم.

أمَّا هؤلاء الذين يلتحقون بالداعشيين من أبناء أوروبا وأمريكا فتلك قصة أخرى، فالشباب في الغرب يعانون من أمراض مختلفة منذ أن بدأت أزمات الشباب، وثورات الشباب هناك التي ارتبطت بنظام الحياة والتربية والتعليم والثقافة في الغرب، فالشباب هناك يتعطشون إلى هوية وانتماء، وقد عجزت ظروف الحياة في الغرب أن تمنحهم الهوية والانتماء، فأخذوا ينتمون إلى تجمعات يختلقونها، وزادت أزماتهم ضيقهم وضجرهم من الحياة الأمريكيَّة والأوروبيَّة الصاخبة التي حولت الإنسان إلى وسيلة وتجاهلت كرامته، وقداسته، لتجعل منه مجرد مجموعة من المواد الكيماوية يمكن أن تشترى من الصيدليات بما لا يزيد عن عشرة دولار، وتلك الأفكار والتحولات جعلت الشاب الغربي كثيرًا ما يضيق بحياته ويذهب إلى سحر الشرق والمغرب موريتانيا وبلدان أفريقية مختلفة، فحين ينتنمي إلى الإسلام على أيدي بعض الدعاة من هذه التجمعات المنحرفة يجد فيها تنفيسًا لطاقاته، وشحذًا لقدراته، وانتماء وهوية وجماعة تعوضه عن الأسرة المفككة، والانتماء إلى مجتمعات جعلت منه ذرة تائهة في الفضاء، فيسارع إلى الانتماء إلى هذه التجمعات ويجد نفسه فيها، وينفس عن طاقاته وقدراته مع وعود كثيرة بالجنة، وما أدراك ما الجنة، فيندفعون مع هؤلاء.

لعلني بهذه العجالة بحلقاتها الثلاث قد أديت أمانتي نحو شبابنا وأوضحت لهم ما ينبغي أن يفهموه عن داعش والداعشية قبل فوات الأوان، وقبل أن يعضوا أصابع الندم، ولات حين مندم.

 

(4)

القرامطة الجدد داعش وأخواتها

فجرت قضيَّة الفتيات البريطانيَّات الثلاثة اللواتي زعم البوليس البريطاني أنَّه اكتشف سفرهن إلى تركيا في الطريق إلى سوريا والعراق للالتحاق بالصيع الضائعين من شباب القرامطة الجدد أو بقايا داعش والغبراء. وظاهرة تمرد الشباب الغربي في أمريكا وأوروبا وكندا واستراليا وسواها، ظاهرة تبرز ثم تختفي منذ فترات طويلة وبرزت في خمسينيَّات القرن الماضي مع مرور أوروبا والعالم بحربين عالميتين، وأطلقت على الحركات الشبابيَّة في أوروبا وأمريكا عناوين كثيرة منها: تمرد الشباب والحركات العنيفة، وقد برزت في زمن شارل ديجول في فرنسا بشكل قوي وتعالت الأصوات في تحليل الظاهرة ومحاولة تفسيرها وفهم أسبابها، وعقدت الندوات ومُوّلت بحوث ودراسات وربما تم تأسيس كثير من مراكز البحوث في تلك الفترة لدراسة الشباب.

 وظاهرة تمردهم، والظواهر الأخرى التي تنشأ في تلك الفئات العمرية التي تنسب إلى الشباب، تعد من الظواهر التي تشغل أذهان المفكرين في الغرب، وبرزت فكرة الاحتقانات في المجتمعات الأوروبيَّة وأمريكا في تلك المرحلة على أنَّها تفسير له شيء من الوجاهة، ويحظى بمسحة منطقيَّة، وقيل: في حينها إنَّ معظم ما يصيب هذه الفئة ناجم عن احتقانات وكبت واغتراب حدث نتيجة فلسفات تغلغلت في الثقافة الغربيَّة والوجدان الغربي، وأنَّها في حاجة إلى التنفيس والتفريغ، وإلا فإنَّ تلك الطاقات التى يتمتع بها الشباب قد تفجر الأوضاع داخل الغرب.

إنَّ أمريكا وأوروبا قد قررا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في أوروبا والحرب العالمية في الولايات المتحدة أن تُصدِّر الاحتقانات الشعبية في مجتمعاتها إلى الخارج، وتفجرها بعيدًا عن الداخل الأمريكي والأوروبي، فذلك أدعى للتقليل من خطرها ودرء أضرارها بمختلف الوسائل، بالإضافة إلى التصدير إلى الخارج وشيطنة الخارج العربي الإسلامي، وتحويل شحنات العداء باتجاهه؛ ابتكرت رياضات العنف من مصارعة وملاكمة وغيرها، ورياضات العنف يمكن أن يكون فيها شيء من علاج وتفريغ، وكذلك إشاعة الانتماء إلى النوادي الرياضية وظهور فكرة اللاعب والمشجع، فالقادرون على اللعب يلعبون، والعاجزون عنه يشجعون؛ لتكون تلك الوسائل لتفريغ الطاقات الشبابية لدى الجنسين، ومع ذلك بقيت مشكلات الشباب أقوى من تلك المحاولات كلها، فالشباب بطاقاته الكبيرة المتشعبة في حاجة ماسة إلى الاستيعاب، وكان العالم القديم يستوعب تلك الطاقات بالحروب والفروسية وما إليها، وهذه كلها لم تعد في هذا العصر كافية لذلك، خاصة وأنَّ هنالك اختلالًا كبيرًا في نسب الشباب في كل بلد من البلدان، فهنالك بلدان دخلت حروبًا وقتالًا فقدت فيه مئات الألوف من أبنائها، فزادت فيها نسبة الشباب في مرحلة من المراحل وفقدت التوازن السكاني، وفيها من قلت عنده تلك النسبة، ولكل ذلك آثاره الإجتماعية والاقتصادية والتربوية والتعليمية وسواها، والشباب أهم عناصر التغيير في المجتمعات، والقرآن المجيد لفت الأنظار إلى هذه المرحلة العمرية في أكثر من آية، ونجد ذلك في قصة أهل الكهف: ﴿..إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾(الكهف:13)، وفي قصة سيدنا إبراهيم قال تعالى:﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾(الأنبياء:60)، فنجد هذا الفتى يقف بمواجهة أمته كلها، ويعمل على تغيير وجهتها ويحطم أصنامها ولا يوقفه شيء بما في ذلك والده الذي أعيته الحيل في إقناعه بالكف عن ذلك أو التخفيف منه على الأقل، وأهل الكهف أولئك الفتية المعدودون وقفوا ضد مجتمعهم بكل فصائله، وحين يئسوا من هداية مجتمعهم آووا إلى الكهف وقرروا اعتزاله بانتظار فرصة قد تسنح في المستقبل للعودة إليه بمنهج إصلاح وتغيير بعد أن يكون ذلك المجتمع قد دخلته بعض التطورات، وغيرت من صلابة موقفه ضد الإيمان والمؤمنين. وأعمار الأنبياء حينما تبدأ رسالاتهم تمثل مرحلة وسطا بين نهاية الشباب وبداية الكهولة، فيكون الأنبياء قادرين على مواجهة شعوبهم وأممهم بدعواتهم بصلابة الشباب وعزيمتهم، وقدراتهم الجسدية، وحكمة الكهول، وطاقاتهم النفسية والعقلية.

وقد تنبه كندي أثناء رئاسته إلى هذه الظاهرة فقرر تكوين ما سماه بجيوش السلام لاستيعاب الشباب الأمريكي وتفريغ طاقاته بشكل موجه فيما هو مفيد، وصار يرسل شباب جيوش السلام إلى بعض البلدان النامية لتكوين علاقات وصداقات مع شبابها ومساعدتها في مشاريع يفخر بها أولئك الشباب أن تركوا لأنفسهم ذكرى خارج ديارهم، واكتسبوا صداقات وأقاموا علاقات مع شباب تلك البلدان.

واليوم يتخذ الشباب الأمريكي والأوروبي من بلاد العرب والمسلمين ومن أفغانستان ميادين لتفريغ شحنات العنف والحماس لديهم خارج بلدانهم؛ فهناك سبعون في المائة من الداعشيين في سوريا ينتمون إلى جنسيات أوروبية وأمريكية، وأربعون في المائة من الداعشيين في العراق ينتمون إلى جنسيات أمريكية وأوروبية يفرغون كل عنفهم وشعورهم بالاستغراب في بلادنا. ترى هل نستطيع أن نعزو بعض أسباب التردد لدى الأمريكان والأوروبيين في مقاتلة الداعشيين إلى عدم رغبتهم في مقاتلة أبنائهم، أو إلى أنَّهم شجعوا إلى الخروج خارج أمريكا وأوروبا ليفرغوا شحنات حماسهم وطاقتهم وشعورهم بالاغتراب في هذه البلدان المسكينة مستفيدين مما أفرزته ظروف هذه البلدان من منعطفات أدت إلى أن (يقع المتعوس على خايب الرجا)؟ ذلك وارد وممكن، خاصة وأن أجهزة الإعلام تحمل لنا في كل أسبوع حوادث تجري في الغرب على أيدي مراهقين، أو شباب يقومون بقتل أسرهم، أو جيرانهم، أو زملائهم في المدارس، إضافة إلى ظاهرة الانتحار المنتشرة في تلك البلدان، فهل خرب الضمير الإنساني لدى هؤلاء فلم يكفهم أن جعلوا من صحارينا مدافن للنفايات النووية فقذفونا بالمرضى النفسيين، والمحبطين؛ لينفسوا عن أنفسهم في بلداننا المنكوبة بدلًا من أن ينفسوا عنها في بلدانهم الأصلية؟ ولم ندفع نحن الثمن لذلك كله؟ وكلمة الإرهاب نفسها كلمة أفرزتها المفردات التي شاعت بعد الثورة الفرنسيَّة.

 فهل من مدكر؟