هل الزوجة مالكة لحليّها

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذى شد بدلائل دينه القويم أركان الشريعة السمحاء، وأحكم بأحكامه فروع الملة الحنيفية البيضاء، أحمده سبحانه على ما علّم، وأشكره على ما أنعم، وأشهد ألا إله إلى الله الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمد عبده، ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه صلاة تنشرح بها الصدور، وتهدأ بها القلوب فى كل الأمور.

 

أما بعد، فقد سئلت عن مسألة وقعت المجاذبة فيها بين المتداعين فى مجلس الإفتاء الأعلى المنعقد تحت رعاية إتحاد علماء كردستان حول حكم الحليّ، والنفائس التى تلبسها، وتتزين بها المرأة المزوجة، والحال أن هذه النفائس هى التي اشتراها لها زوجها حينما خطبها، أو بعد البناء بها، فالسؤال هو هل هذه الحلي ملك للزوج؟ فهو قادر على الأخذ، والإنتزاع منها؟ أو هى ملك أبدى للزوجة، لا تنزع منها؟ فكلفني أحد أصدقائي أن أكتب حول هذا الموضوع ما أظفر به من النقول المعتمدة، فلبيت الطلب، وقلت: إن مما ظهر للفقير بعد مطالعة بعض الكتب المعتمدة عندنا معاشر الشافعية ما يأتي:

 

إن الخاطب، أو الزوج حينما اشترى تلك الحلي، وسلّمها إلى جهة المخطوبة، أو الزوجة إن نوى في قلبه أن هذه الحلي ملكه، سمح بها للزوجة أن تتزين بها مؤقتاً، وحلف على ذلك، ولم تكن للزوجة بينة تثبت ملكيتها لها، فان الحلي فى هذه الحالة هى ملك للزوج، عارية عند الزوجة، فالزوج قادر على انتزاعها منها أي وقت شاء، وإن لم يكن الأمر كذلك، بل اشتراها الزوج بنية إعطائها للزوجة، ولم يخطر بباله التزيين الوقتي، فالحلي في هذه الحالة ملك للزوجة، ولا حق للزوج فيها، ولا يجوز له أن ينتزعها منها، سواء طلقها، أم لم يطلقها، قال الله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا}(1)، وقال سبحانه أيضاً: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}(2)، فالحلي المذكورة فى هذه الحالة إما هدية لا تحتاج إلى إيجاب، وقبول لفظي، وإما هبة مقبوضة، وهي أيضاً تصح بالمعاطات، كما أفتى بها كثير من العلماء الأعلام، ومنهم الإمام النووي، كما سيطلع على ذلك فى المنقولات الآتية، يقول الرسول الأعظم ()، (لا يحل لأحد أن يعطي عطية، أو يهب هبة، فيرجع فيها إلاّ الوالد فيما يعطى ولده)(3).

 

والحاصل ان الحكم المذكور يتبين بالرجوع، والاستفسار منه، فإن قال: كنت ناويا حينما سلمت الحلي لمخطوبتي، أو زوجتي، بأن هذه الحلي ملكي، أزين بها امرأتي مؤقتاً، وحلف على هذه النية، ولم تكن لمقابله فى الدعوى بينة بما يدعيه، فالحلي في هذه الحالة ملك للزوج، يتصرف فيها كيف يشاء، فهذه الواقعة تشبه ما يقع فى زماننا كثيراً من أن امرأة فقيرة مدعوة لمراسم زواج أحد المعارف، فتذهب إلى إحدى الثريات، فتستعير منها ما تتزين بها من النفائس، ثم تردها إلى صاحبتها، فمثل الزوجة المذكورة فى الحالة السابقة كمثل تلك الفقيرة المعيرة المذكورة، بلا فرق، وإن لم ينو الزوج ما ذكر، بل اشترى الحلي للزوجة، وأقبضها، ولم يخطر بباله الاختصاص الوقتي، فالحلي فى هذه الحالة، إما هدية مرسلة، وإما هبة معطاة، يقول صاحب الرسالة العظمى (): (استوصوا بالنساء خيراً)(4)، وقال رسول الله(): (إتقوا الله فى النساء، فانهن عندكم عوان)(5).

فالأغلب مما نشاهد أن الخاطبين حينما يخطبون يفرض عليهم من جانب المخطوبات صرف مثاقيل من الذهب الخالص، والنفائس للمخطوبات زيادة على المهور المعتادة، ثم بعد مناقشة حادة يوافق الخاطبون على بعض ذلك المفروض، أو على كله، ومن المعلوم أن أهل المخطوبة يريدون بذلك الفرض الملكية الأبدية، وإلاّ فلا معنى لفرض تزيين مؤقت على الخاطب، والخاطبون أيضاً يفهمون ذلك، وإلاّ فلا معنى لمناقشتهم فى ذلك أيضاً، فإن التزيين المؤقت هين على كل خاطب، ثرياً كان، أو فقيراً، فلا كلفة فيه.

 

فالخلاصة فى الموضوع: إن وقعت الخصومة بين الزوجين فى ملكية الحلي الملبوسة للزوجة، لا يُفتى، ولا يُحكم بملكية أحدهما لها، إلاّ بعد التحقق عن كيفية إلباس الحلي، والاستفسار عن نية الزوج، وتحليفه، والبحث الدقيق عن بينة الزوجة، فلأي جانب ثبتت الملكية يحكم بها له.

 

وليعلم الزوج أنه إن ثبتت ملكية الحلي المذكورة له تجب فيها الزكاة إن بلغت نصاباً، وحالَ عليها الحول، فيجب عليه أدائها اعتباراً من حين شرائها للزوجة إلى انتزاعها منها، ثم إلى زوال ملكيتها نهائياً، بخلاف ما إذا ثبتت ملكية الزوجة لها، فلا زكاة فى الحلي المباحة للنساء، كما هو مقرر في الفقه.

 

 هذا ما فهمته من مطالعة الكتب الشافعية المعتمدة، وللتأكد، والقناعة بما ذكر نعرض فيما يأتي أمام القارئ الكريم بعض نصوص المصادر الموثوقة التي استنبط منها ما ذكر، والله يهدي من يشاء.

 

نصوص المصادر

 

قال الإمام النووى فى الروضة: المعاطاط ليست بيعاً على المذهب، وقال مالك (رض): ينعقد بكل ما يعده الناس بيعاً، واستحسنه ابن الصباغ، قلت: هذا الذي استحسنه ابن الصباغ هو الراجح دليلاً، وهو المختار، لأنه لم يصح فى الشرع اشتراط لفظ، فوجب الرجوع إلى العرف كغيره من الألفاظ، وممن اختاره المتولي، والبغوي، وغيرهما، والله أعلم(6).

 

عبارة التحفة: واختار المصنف "أي: النووى" كجمع انعقاده "أى البيع" بها "أي: بالمعاطاط" فى كل ما يعده الناس بيعاً(7)، ثم قال: ويجرى خلافها "أي: في الصحة بالمعاطاط" فى سائر العقود المالية(8).

 

عبارة الخطيب: وخلاف المعاطاط فى البيع يجرى فى الإجارة، والرهن، والهبة، ونحوها(9).

 

(وشرط فى الهبة إيجاب وقبول لفظاً) وبالمعاطاط على قول أختير(10).

 

وينعقد الهبة بالمعاطاط على المختار(11).

 

ونقل شيخنا ابن زياد عن فتاوى ابن الخياط إذا أهدى الزوج للزوجة بعد العقد بسببه فانها تملكه ولا يحتاج إلى إيجاب وقبول(12).

 

(قوله: بعد العقد) يفيد أنه إذا كان قبل العقد لا تملكه إلا بإيجاب، وقبول، لكن قد علمت إن قوله: أهدى يقتضي أنه هدية، وعليه فلا فرق(13).

 

وفى الكافي: لو اشترى حلياً، وديباجاً لزوجته، وزينها به لا يصير ملكاً لها بذلك، ولو اختلف هي، والزوج فى الإهداء، والعارية صدق، ومثله وارثه(14).

 

(قوله: لا يصير ملكاً لها) جواب لو، أي: لا يصير المذكور من الحلي، والديباج ملكاً لها بنفس التزيين المذكور، بل إنما يصير بصدور الإيجاب، والقبول منها، أو بقصد الهدية منه لها بذلك(15).

 

ومن دفع لمخطوبة طعاماً، أوغيره ليتزوجها، فرد قبل العقد، رجع على من أقبضه(16).

 

(قوله: فرد قبل العقد) يقتضى أنه إذا لم يرد لا يرجع فيه، فهي تملك ما دفع إليها قبل العقد لأجله من غيرصيغة(17).

 

سئل عمن سلم لزوجته حلياً قبل وطئها، ثم اختلفا، فادعت ملكه، وادعى بقائه على ملكه،.... إلى آخر السؤال، فأجاب بقوله: العبرة فى ذلك بنية الدافع، فإن نوى القرض ملكته ملك القرض، ورجع عليها ببدله، أو الهدية ملكته بشرط الإقباض، أو الأذن فيه(18).

 

سئل عمن خطب امرأة، وأجابوه، فأعطاهم شيئاً من المال يسمى الجهاز، هل تملكه المخطوبة أو لا؟ فأجاب بأن العبرة بنية الخاطب الدافع، فإن دفع بنية الهدية ملكته المخطوبة، أو بنية حسبانه من المهر حسب منه(19).

فعند مطالعة هذه المنقولات القيمة مطالعة دقيقة يتضح وضوحاً بيناً أن الأحكام، والملاحظات التى ذكرت قبلها صواب، لا محيد عنها، والله ولي التوفيق، والحمد لله أولاً، وآخراً.

 

الهوامش:

() سورة البقرة، الآية: 229.

(2) سورة النساء، الآية: 20.

(3) أخرجه الحافظ الترمذي فى جامعه: 2/265 من تحفة الأحوذي، رقم: 1301.

(4) أخرجه البخاري: 13/104 من فتح الباري، رقم: 3331.

(5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده: 16/225 من الفتح الرباني.

(6) روضة المحتاج، الإمام النووي: 3/336.

(7) تحفة المحتاج، الإمام ابن حجر: 4/217.

(8) المصدر نفسه: 4/218.

(9) مغني المحتاج، الإمام الشربيني: 2/3.

(10) تحفة المحتاج، الإمام ابن حجر: 6/298.

(11) فتح المعين مع الحاشية: 3/143.

(12) المصدر نفسه: 3/143.

(13) إعانة الطالبين: 3/145.

(14) تحفة المحتاج، الإمام ابن حجر: 8/319.

(15) إعانة الطالبين: 4/76.

(16) فتح المعين مع الحاشية: 3/357.

(17) إعانة الطالبين: 3/357.

(18) الفتاوى الكبرى لابن حجر: 3/365.

(19) المصدر نفسه: 4/111.

 

 هذه المقالة منشورة في مجلّة رسالة العلماء (88).