الأزهر‏..‏ ووسطية الإسلام

لأستاذ الدكتور محمد عبد الفضيل القوصى *

 

لو كان الأزهر مجرد معهد علمي يجلس في ساحاته كوكبة من الأساتذة تحيط بهم ثلة من التلاميذ‏,‏ لكان في بلدان العالم ـ مشرقه ومغربه‏,‏ ما يماثله ويضاهيه‏,‏ وربما يفوقه أو يزيد عليه‏!!‏

  ولو كان الأزهر مجرد خزانة للتراث أو وعاء له‏,‏ لكان في مكتبات العالم ـ المغمورة والمشهورة ـ ما يضارعه أو يدانيه كثرة وشهرة‏!!‏

  ولو كان الأزهر مجرد اسم ذائع‏,‏ أو شهرة رائجة‏,‏ لكان في مقدور كثيرين اصطناع مثل ذلك‏,‏ أو ما هو أكثر منه‏!!‏

  إذن‏..‏ فما الذي جعل للأزهر‏,‏ هذه القامة السامقة‏,‏ والقيمة الشاهقة‏,‏ التي لم تزدد علي مر السنين إلا ارتفاعا وشموخا؟

  إنه استمساك الأزهر بميزان الاعتدال‏,‏ وتجسيده الفعال للوسطية الإسلامية‏,‏ تلك الوسطية التي تمثل نسيج الإسلام الساري في أوامره ونواهيه‏,‏ وقيمه ومقاصده‏,‏ تلك الوسطية التي كتب الله تعالي ـ بواسطتها ـ للإسلام‏,‏ الخلود والبقاء‏,‏ والشهادة علي البشرية جمعاء‏,‏ وذلك في قوله سبحانه‏(‏ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء علي الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا‏).‏

بيد أن تلك الوسطية التي اؤتمن الأزهر عليها لم تكن مجرد دعوي عريضة‏,‏ أو دعاء أجوف‏,‏ بل كانت ذات تجليات رئيسة شتي‏,‏ تجاه القضايا الخطيرة الكبري في الإسلام‏:‏

  (1)‏ فمنذ أن تبلور كيان الأزهر الفكري‏,‏ كان له ـ من خلال موقفه الوسطي ـ رأي متوازن ثلاثي الأبعاد تجاه الفتنة الكبري التي حدثت في القرون الأولي للإسلام‏,‏ تتمثل أولا‏:‏ في وجوب تعظيم أقدار الصحابة رضوان الله عليهم جميعا‏,‏ والحكم القاطع بعدالتهم وبراءتهم من المطاعن والمثالب‏,‏ تمسكا بقوله صلي الله عليه وسلم‏(‏ لا تسبوا أصحابي‏)‏ و‏(‏أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم‏),‏ وتتمثل ثانيا‏:‏ في أن نكف ألسنتنا عما شجر بينهم من خلاف أو شقاق‏,‏ آخذا بالمقولة المشهورة عن السلف الصالح‏(‏ هذه أحداث أبعد الله تعالي عنها سيوفنا‏,‏ فلا نلوث بها ألسنتنا‏).‏

  وتتمثل ثالثا‏:‏ في التزام الحيطة والحذر تجاه كثير من المرويات التاريخية التي تلاعبت بها الأهواء البغيضة‏,‏ والعصبيات المقيتة‏,‏ وأن نحمل الراجح منها علي أحسن محامله‏.‏

  وبهذا الموقف الوسطي المذهبي تحدد موقف الأزهر التاريخي أمام الفرقاء‏,‏ علي نحو سمح للأزهر ـ فيما بعد ـ أن يتبني دعوة التقريب بين المذاهب‏,‏ وأن يعمل علي جمع المسلمين علي كلمة سواء‏,‏ لولا أعاصير السياسة الهوجاء التي أفسدت ما أصلحه الأزهر‏,‏ وذهبت بجهوده ـ في هذا السبيل ـ كل مذهب‏!!‏

  (2)‏ ومنذ أن تبلور كيان الأزهر الفكري‏,‏ كان له ـ من خلال موقفه الوسطي ـ رأي محدد تجاه قضية الجمع بين النقل والعقل‏,‏ فلايزال الأزهر‏,‏ ملتزما بقولة الإمام الغزالي‏:‏ لا معاداة بين مقتضيات الشرائع وموجبات العقول‏,‏ وبقولته الأخري العقل كالبصر السليم‏,‏ والقرآن والسنة كالشمس المنتشرة الضياء‏,‏ ولا غني لأحدهما عن الآخر‏.‏

  بهذا الموقف الوسطي تحدد موقف الأزهر العلمي‏,‏ فشملت علومه التراث النصي الزاخر‏,‏ كما شملت التراث العقلي الرصين‏,‏ دون أن ينثني أو ينحني أمام تيارات وافدة‏,‏ تحمل بصمات معادية للعقل الي حد التكفير‏,‏ أو أمام محاولات مقابلة تدعي العقلانية‏,‏ لكي تدخل علي نسيج الإسلام‏,‏ حداثة منفلتة‏,‏ أو علمانية مرفوضة‏.‏

  (3)‏ ومنذ أن تبلور كيان الأزهر الفكري‏,‏ تحدد موقفه الديني والشرعي تجاه محاولات الاختراق التي تحاولها جهات شتي‏,‏ فلقد احتفظ بكيانه الصلب المتماسك الرافض لمحاولات مزج الإسلام بالعلمانية‏,‏ أو لخلط الإسلام بألاعيب السياسة ومناوراتها‏,‏ أو لإلباس الإسلام أودية صحراوية متحجرة‏,‏ أصابت المجتمعات الإسلامية بالنزوع الي معاداة العقل‏,‏ والنفور من التنوع والتعددية‏.‏

  هذه التجليات اقتضت من الأزهر ـ علي مدي تاريخه الحافل ـ اختيارات حاسمة‏,‏ ومواقف صارمة‏,‏ لا يرعي فيها إلا وجه الإسلام الحق‏,‏ ووجه الحقيقة الناصعة‏!‏

  ـ فلم تكن وسطية الأزهر ـ يوما ما ـ محاولات عقيمة لاسترضاء هذا الطرف أو ذاك الطرف علي حساب الحق والحقيقة‏.‏

  ـ ولم تكن وسطية الأزهر ـ يوما ما ـ مواقف غامضة متخاذلة تجاه قضايا الإسلام الكبري التي لا تحتمل انصاف الحلول أو الاجابات الرجراجة‏!!‏

  ـ ولم تكن تلك الوسطية ـ يوما ما ـ مجرد حاصل جمع ضحل لأطراف متناقضة‏,‏ كل منها يبتغي أن يتخذ من الأزهر ظهيرا لأغراضه‏,‏ أو نصيرا لأهدافه‏,‏ بل كانت وسطية الأزهر دوما موقفا واضحا ورؤية‏,‏ نابعة من أصول الإسلام القطعية‏,‏ مستهدفة مصالح المسلمين‏,‏ الذين يؤوبون الي تلك الوسطية حين تضل بهم السبل‏,‏ أو تتفرق بهم الأهواء.

 

‏* عضو هيئة كبار العلماء- نائب رئيس مجلس إدارة الرابطة.