لماذا اخترنا في نصاب المال لهذا العام ١٤٤٥ه =٢٠٢٤م الفضةَ دون الذهب؟ ولماذا المُصاغة منها دون التِّبر؟

 

لماذا اخترنا في نصاب المال لهذا العام ١٤٤٥ه =٢٠٢٤م الفضةَ دون الذهب؟ ولماذا المُصاغة منها دون التِّبر؟

بقلم أ. د. حسن المفتي

===

الحمدلله والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما وبعد:

لقد اخترنا في فتوانا لهذا العام تقدير أموال أوراق الصرف المتداولة ب(الفضة) و بالمصاغة المهيأة منها دون مجرد التبر، وذلك لأسباب عديدة نذكر اهمها ليتبيّن الحكمة التي قد تكون خفية عند بعض أهل العِلم لكثرة تساؤلهم عن ذلك يوميا وهي على النحو الآتي وبالله التوفيق:

اولا:

إن الفضّة (اي الوَرِق) كان نصابها في زمن الرسول (صلى الله عليه وسلم) والصحابة الكرام هو خمس أوراقٍ اي: ما يعادل ٥٩٥غرام اي (١٤٠) مثقالا من الفضة الخالصة المنقوشة المهيأة للبيع، كالدراهم لأن الدراهم الفضية الفارسية هي الأصل من السنة والاجماع المعتمد عليه في القياس به.

والفضة الخالصة حسب كلام أهل الاختصاص هي ما كان من عيار ( 1000 ).

فالإجماع منعقد منذ صدر الإسلام وعهد الصحابة والتابعين أن الدرهم الشرعي هو الذي تزن العشرة منه سبعة مثاقيل من الذهب والأوقية منه أربعين درها وهو على هذا سبعة أعشار الدينار ووزن المثقال من الذهب اثنتان وسبعون حبة من الشعير فالدرهم الذي هو سبعة أعشاره خمسون حبة وخمسا حبة وهذه المقادير كلها ثابتة بالإجماع .

قال الامام النووي في المجموع

ج ٥ص ٤٨٨:" ونصاب الذهب عشرون مثقالا ، ونصاب الفضة مائتا درهم ، وهي خمس أواق بوقية الحجاز والاعتبار بوزن مكة ، فأما المثقال فلم يختلف في جاهلية ولا إسلام وقدره معروف ، والدراهم المراد بها دراهم الإسلام وهي التي كل عشرة منها سبعة مثاقيل ".

وقال العلامة المدرس في إرشاد الأنام ص ١٧٧: عند كلامه عن زكاة الناض" ...ولا زكاة في فضة حتى يبلغ مائتي درهم وكل عشرة دراهم وزن سبعة مثاقيل فميزانه في الفضة مائة وأربعون مثقالا ".

ونصاب الفضة هو ربع العشر لما صحّ عنه (صلى الله عليه وسلم) ان " في الرِّقَةِ رُبُعُ العُشرِ" كما ثبت في صحيح البخاري برقم (١٤٥٤) من حديث انس (رضي الله عنه).

قال الشيخ ابنُ قدامة المقدسي: " إذا تمَّت الفضَّةُ مئتين، والدنانيرُ عِشرين، فالواجِبُ فيها رُبُع عُشْرِها، ولا نعلَمُ خلافًا بين أهل العِلم في أنَّ زكاة الذهب والفضَّة رُبُعُ عُشرِها". وقال: "أجمعَ أهل العِلم على أنَّ في مئتي درهمٍ خمسةَ دراهم". ينظر: المغني للمقدسي (3/38).

والأُوقيَّة الواحدة تساوي أربعين دِرهمًا، وقد نقل الإجماع على ذلك الحافظ ابن عبد البر المالكي حيث قال رحمه الله: " والأوقية عندهم أربعون دِرهمًا كيْلًا، لا خلاف في ذلك". (الاستذكار)لابن عبدالبر القرطبي النميري: (3/127-128).

وصحّ عن أبى سعيدٍ الخُدْريِّ (رضِي الله عنه)، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: " ليس فيما دون خمْسِ أواقٍ مِنَ الوَرِقِ صَدَقةٌ " متفق عليه رواه البخاري برقم (1459)، ومسلم برقم (979).

وعن علي (رضي الله عنه) أن النبي ﷺ قال: «إذا كانت لك مائتا درهم، وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء ـ يعني في الذهب ـ حتى يكون لك

عشرون ديناراً، فإذا كانت لك عشرون ديناراً، وحال عليها الحول ففيها نصف دينار" (أخرجه أبو داود في السنن (1573)، وابن وهب في (الجامع) (183)، والبيهقي في السنن (7783) بإسناد حسن.

ووجه الاستدلال في حديث ابي سعيد للمسألة كذلك هو :

أنَّ رَسولَ اللهِ (صلَّى الله عليه وسلَّم) خصَّ الصَّدقةَ في الرِّقَة مِن بينِ الفضَّة، وأعرَضَ عن ذِكر سواها، فلم يقلْ: إذا بلغَتِ الفضَّة كذا ففيها كذا، ولكنَّه اشتَرَط الرِّقَةَ مِن بينها، ولا يقَعُ هذا الاسمُ في الكلامِ المعقول عند العربِ إلَّا على الوَرِقِ المنقوشةِ ذات السِّكَّة السَّائرةِ في النَّاسِ، وفي حُكمِها الأوراقُ النقديَّةُ. ينظر: الأموال لأبي عبيد (ص: 542، 543).

والموسوعة الفقهية الكويتية مبحث (زكاةُ الأوراق النقديَّة).

وفي ذلك قال الامام النووي في المجموع ج ٥ص ٤٨٨:" أما حديث (في الرقة ربع العشر) فصحيح رواه البخاري من رواية أنس .. والرقة بتخفيف القاف وكسر الراء هي الورق وهو كل الفضة . وقيل الدراهم خاصة .. ولم يقل أصحابنا ولا أهل اللغة ولا غيرهم : إن الرقة تطلق على الذهب ، بل هي الورق . وفيه الخلاف الذي ذكرته ، وأصلها ورقة بكسر الواو كالزنة من الوزن ".

ثانيا:

إنَّ التقدير بالفضة أحوَطُ في بابِ الزَّكاةِ، وأرْعى لمصلحةِ الفُقراءِ والمستحقِّينَ الذين فَرَضَ اللهُ لهم الزَّكاة..وقد ثبت في كتب الشرع لاسيما السادة الشافعية في زكاة المعروض أنه بأيهما (الفضة أو الذهب ) بلغ المعروض النصاب وجبت الزكاة والتقدير به، و يقاس النقدان عليها بجامع: باب الزكاة وان الموضوع فيهما هو المال المقدّر بالنقدين. قال شيخ الإسلام النووي في المنهاج:" فَإِنْ غَلَبَ نَقْدَانِ وَبَلَغَ بِأَحَدِهِمَا نِصَابًا قُوِّمَ بِهِ، فَإِنْ بَلَغَ بِهِمَا قُوِّمَ بِالْأَنْفَعِ لِلْفُقَرَاءِ". ينظر المنهاج مع تحفة المحتاج لابن حجر ج٣ص ٣٠٣.

وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية المبحث الثاني: المطلب الثالث: ِنِصابُ الأوراقِ النقديَّةِ: هو أدنى النِّصابينِ مِنَ الذَّهَبِ أو الفضَّة،(أي: إذا كان قيمةُ نِصابِ الفضَّة (595 جرامًا)، أو الذَّهب (85 جرامًا) أقلَّ من قيمةِ الآخَرِ اعتُبِرَت قيمةُ الأقَلِّ نِصابًا للأوراقِ النقديَّةِ). وبهذا صدَرَ قرارُ المجمَعِ الفقهي التابِعِ لرابطةِ العالَمِ الإسلاميِّ،(ضمن قرارات المجمع الفقهي بمكة: (وجوبُ زكاة الأوراقِ النقديَّة إذا بلغت قيمتُها أدنى النِّصَابين؛ من ذهبٍ أو فضَّة، أو كانت تكمِّلُ النِّصَابَ مع غيرها منَ الأثمان ِوالعروضِ المُعَدَّة للتِّجارة). (مجلة البحوث الإسلامية) (31/374)، (مجلة المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي) (ج3 ص 952). وقرارُ هيئةِ كبارِ العُلماءِ بالسعوديَّةِ، (ضمن قرارات هيئة كبار العلماء: (وجوبُ زكاتها إذا بلغتْ قيمتُها أدنى النِّصابينِ مِن ذهبٍ أو فضَّةٍ، أو كانت تكمِّل النِّصَابَ مع غيرها من الأثمانِ والعُروضِ المعدَّة للتِّجارة إذا كانت مملوكةً لأهلِ وُجوبِها). (أبحاث هيئة كبار العلماء) (1/93). وهو أيضًا اختيارُ اللَّجنة الدَّائمة، في بحث للجنة الدائمة: (وجوبُ زكاتِها إذا بلغَتْ أدنى النِّصابين مِن ذهب أو فضَّة، إذا كانت مملوكةً لأهل وجوبها، وحالَ عليها الحَوْل). ينظر: (مجلة البحوث الإسلامية) (1/214)...وذلك اي التقدير بالفضة مراعاةً لمصلحةِ الفُقَراء؛ إذ التقديرُ بأدنى النِّصَابينِ أنفعُ لهم؛ إذ به تجِبُ الزَّكاةُ على أكبَرِ عددٍ مِنَ المسلمينَ. ينظر: (مجلة البحوث الإسلامية) (39/337).

ولذلك يقول الأستاذ الشيخ

وهبة‌ الزحیلی في كتابه الفقه الاسلامی وأدلته: (3/1821) " ويرى كثير من علماء العصر أن النقود تقدر بسعر الفضة احتياطاً لمصلحة الفقراء، ولأن ذلك أنفع لهم. وأرى الأخذ بهذا الرأي؛ لأنه يفتى بما هو أنفع للفقراء".

ثالثا:

ان اسعار الذهب الخالص العيار (٢٤) قد غلت هذا العام بحيث تزيد النصاب منه وهو (٢٠) مثقالًا في العراق اكثر من (١٠) ملايين دينار.

فلو قدّرنا المال به لتضرر الفقراء كثيرا؛ لأن عشرات الآلاف ممن يملكون اقل من عشرة ملايين حينئذ لا يزكون بحجة عدم بلوغ أموالهم النصاب!!

بينما نصاب الفضة المهيأة المعدَّة للتِّجارة اليوم المثقال الواحد منها بخمس عشرة دينارا فقط، فيبلغ النصاب منها مليونين ومائة الف دينار اي ١٥ × ١٤٠=٢ مليون و١٠٠ الف دينار فقط.. وبذلك يؤدي الزكاة آلاف الناس فيستفيد بذلك آلاف الفقراء وهم المقصودون في تشريع عبادة الزكاة.

رابعا:

ان (العمل بالأحوط لازم) وأولى في أبواب العبادات بالاتفاق، والأحوط هنا الفضة دون الذهب.

خامسا:

لأن القاعدة الفقهية تقول (الخروج من الخلاف مستحب) وهو كذلك بالاتفاق، فمن قدَّر ماله بالفضة خرج من خلاف من أوجب ذلك دون العكس.

ولهذه الاسباب وغيرها تم والحمد لله تقدير أموال أوراق الصرف المتداولة في كوردستان هذا العام بالفضة دون الذهب، وبالفضة المضروبة المصاغة دون التِّبر منها..

ولسائل ان يقول : من ملك نصاب الفضة يصبح غنيا لأنه يزكي فلا يجوز له حينئذ أخذ الزكاة .

قلنا : نعم يخرج من دائرة الفقر لكنه قد يبقى مسكينا لايخرج بملكه لنصاب الفضة من حد المسكين فيجب ان يدفع زكاة نصابه ويجوز له ان يأخذ زكاة غيره لسد حاجته بها ، حتى إن شيخ الإعانة وعند بيانه لحد المسكين نص أنه يجوز للإمام أن يأخذ زكاته منه ويدفعها إليه ، حيث قال (رحمه الله تعالى): "والمسكين من قدر على مال أو كسب يقع موقعا من حاجته ولا يكفيه، كمن يحتاج لعشرة وعنده ثمانية ولا يكفيه الكفاية السابقة، وإن ملك أكثر من نصاب، حتى أن للإمام أن يأخذ زكاته ويدفعها إليه "إعانة‌ الطالبین للسيد البكري: (2/188) .

وقد كنت سابقا اعتقد ان التقدير بالذهب قد يكون أنفع للفقراء بحجة تدني نقدية الفضة وأن الفقراء حينئذ يأخذون فقط؛ لكن انشرحت صدرا أن يقدر النصاب بالفضة لبقاء قيمة الفضة اولا، ولأنها أصبحت أغلى قيمة بالنسبة للسنوات السابقة، ولأن سعر الذهب أصبح فاحشا هذا العام بالتحديد ، وقد اتجه معظم اعضاء المجلس الأعلى للإفتاء الموقر نحو هذا الرأي فأصدرنا معا الفتوى الشرعية بالأغلبية الساحقة بالتقدير بالفضة المهيأة الخالصة. فأحببت في هذه العجالة أن أوضح هذه المسألة الفقهية لمزيد الفائدة ورسوخ الاطمئنان.

والله ولي التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا

العبد الفقير إلى رحمة ربه القدير

د. حسن ابن الشيخ خالد المفتي

استاذ الفقه واصوله بجامعة صلاح الدين أربيل كودستان العراق ورئيس المجلس الأعلى للإفتاء في اقليم كوردستان، العراق،

٧ رمضان ١٤٤٥ه= ١٧-٣-٢٠٢٤ م